بيت صفافا: حكاية صمود من ذاكرة النكبة

17 مايو 2015
من فعاليات إحياء ذكرى النكبة (الأناضول)
+ الخط -

مع بداية شهر أبريل/نيسان من عام 1948، كان الصفافيون، أهالي قرية بيت صفافا جنوبي القدس، قد أخلوا القرية من النساء والأطفال والشيوخ وأرسلوهم إلى أماكن أكثر أمناً كبيت لحم وبيت جالا والخليل، فيما بقي العشرات من الشبّان يدافعون عن القرية في وجه الهجمات الصهيونية بما توفر من السلاح القديم، برفقة قوات مصرية وسودانية. 

كان من بين هؤلاء المدافعين، ابن بيت صفافا أبو عبد الله، إبراهيم عبد الفتاح عليان، المولود في عام 1927. أنهى إبراهيم الصف الخامس في المدرسة الابتدائية في بيت صفافا بتفوق، ولكنه لم يستطع إكمال تعليمه في مدارس مدينة القدس المحتلة لضيق الحال. 

اقرأ أيضاً: لاجئو مخيم جنين ينتظرون في محطة القطار العثماني

"قال لي أحد أصدقاء أبي حينها: من تظن نفسك، ابن عائلة الحسيني أو النشاشيبي لتلتحق بمدارس المدينة؟"، يقول إبراهيم، في إشارة إلى الفروقات بين أوضاع الفلاحين وأهالي المدن في ذلك الحين. بدلاً من الدراسة، اتجه إبراهيم للعمل في مطبخ أحد معسكرات الجيش البريطاني جنوبي فلسطين إلى أن اشتعلت معارك عام 1948.

تمركز في قرية بيت صفافا، بحسب ما يذكر أبو عبد الله (88 عاماً)، ما يقارب من 30 شاباً من بيت صفافا، بالإضافة إلى قوات سودانية ومصرية يدافعون عنها يقدرهم بما يقارب الأربعين مقاتلاً، في وجه الهجمات الصهيونية من جهة مستوطنتي مكور حاييم ورمات راحيل، ومن جهة القطمون والمالحة اللتين سقطتا في يد العصابات الصهيونية.

يذكر عبد الله التل في كتابه "كارثة فلسطين"، أن عدم سقوط بيت صفافا في عام 1948، على الرغم من سقوط كثير من المناطق حولها، يعود إلى "ثبات تلك القرية وأهلها الذين وقفوا أمام اليهود ولم ينزحوا من قريتهم المحبوبة"، مشيراً إلى أنها كانت "نتوءاً عربياً بين المناطق اليهودية".

دور مميّز لمقاتلي السودان

يعود أبو عبد الله بالذاكرة إلى الوراء ليشير إلى دور المقاتلين السودانيين بشكل خاص في تحصين قرية بيت صفافا وبناء الاستحكامات والخنادق حولها لصدّ الهجمات الصهيونية عليها، يقول: "السودانيون جاءونا من الله، كان لديهم إيمان غير طبيعي، لا يخافون شيئاً، كانوا يضعون أنفسهم في الصّفوف الأولى للقتال، ويحاولون تشجيعنا، يقولون: كيف تريد أن تحسب شهيداً وأنت خائف أو متردد، يجب أن تذهب للقتال لا يهمك شيء حتى تنال الشهادة عن جدارة وصدق". 

 يقطع حديثه خليل صالح عليان، ليخبرنا ما سمعه من أبيه ورفاقه عن قوة السودانيين، فيما يشبه نسج الأساطير: "كان السودانيون يقولون لشباب القرية اقرأوا آية الكرسي والرصاص لن يصيبكم، إحنا الرصاص يجي فينا وما يقتلنا". ولدى سؤال الشيخ موسى خليل عثمان، والذي كان يبلغ من العمر 16 عاماً في عام 1948 عاماً، عن السودانيين يكرّر الوصف نفسه مضيفاً: "كانوا مقاتلين أشداء يقاتلون عن عقيدة، يقاتلون بقلب ورب". 

ولقد كان هذا الإيمان العميق الذي يحمله السودانيون بضرورة الدفاع عن فلسطين يستلزم منهم في كثير من الأحيان صرامة لم يعتدها أهالي بيت صفافا. يخبرنا الشيخ موسى بإحدى قصص هذه الصرامة، ويقول "رآني أحد المقاتلين السودانيين وقد ذهبت برفقة بقرة العائلة لترعى في الوادي القريب من بيت صفافا. كانت هناك مساحة من الأرض يعتقد اليهود أنها ملغومة".  يبتسم الشيخ موسى ويقول: "غضب مني السودانيون يومها، خافوا أن يكون أحد اليهود قد رآني فيكتشف أن الأرض ليست ملغومة، وضربوني يومها".

لا يغيب عن إبراهيم وموسى أن يذكرا الضعف العربي ورداءة السّلاح الذي أضاع من العرب غالبية مساحة فلسطين في عام 1948. يقول أبو عبد الله متحسراً: "أذكر يوماً أغار السودانيون على مستوطنة ميكور حاييم وطردوا المستوطنين منها، لكن ما كانوا يحملونه من سلاح ويملكونه من قوة لا يمكّنهم من البقاء هناك، فرجعوا إلى بيت صفافا".

تقسيم القرية

قدّمت بيت صفافا الشهداء على أرضها وأراضي القطمون والقسطل، فحفظت أرضها من دخول العصابات الصهيونية، بينما بدأ الأهالي بالعودة إلى بيوتهم واستكمال حياتهم. وقد خلّدت نساء القرية ذلك الإنجاز بالأهازيج فقلن: "بلدنا احتاطوها من كلّ الجهات اجوها، صدق لو دخلوها لنسفوا الدور مع الطوابين، اجونا بليل وهي عتمة وقمنا عضو النجمة، هجمنا عليهم هجمة وراحوا منا مكسورين".

غير أن "النصر" لم يكتمل، فبعد توقيع اتفاقية الهدنة "رودوس" في أبريل/نيسان من عام 1949 ما بين الأردن ودولة الاحتلال، سلّمت القوات الأردنية ما لم يخسره الصفافيون في الحرب، سلّمت لدولة الاحتلال أراضي من بيت صفافا تقع في الجهة الشمالية، حيث تمرّ سكة الحديد العثمانية الواصلة بين القدس ويافا، والتي لم يكن الإسرائيليون مستعدين لخسارتها كوسيلة نقل مهمة في بداية تأسيس كيانهم المغتصب. وقد شملت هذه الاتفاقية تسليم منطقة "المثلث" أي قرى وادي عارة، في مقابل أن يحصل الأردنيون على أراضٍ جنوبي الخليل.

يخبرنا أبو عبد الله عن ذلك اليوم، ويقول "جاء ضابط أردني، فأخبر أهالي القرية والسودانيين أن القرية ستقسم لتصبح المنطقة التي تمرّ بها سكة الحديد ومسافة 30 متراً جنوبها تحت السيطرة الإسرائيلية". يضيف "جن جنون السودانيين، صاح أحدهم واسمه محمد علي: "تروح من هنا أحسنلك.. انتو ما تخافون الله.. احنا دمنا كله هنا.. تسلموه لليهود كدة!".

لم يملك أهالي بيت صفافا، أو المقاتلون السودانيون من أمرهم شيئاً، وفي محاولة لفرض الاتفاقية وتهجير أهالي القرية، بدأت المدفعية الإسرائيلية بإطلاق قنابلها باتجاه القرية بشكل عشوائي. وبينما اضطر السودانيون للرحيل في نهاية الأمر، وجد الصفافيون أنفسهم في قرية مجزأة بشريط حدودي ودوريات مراقبة، يعيش ما يقارب الألف منهم في القسم الشرقي الجنوبي من القرية تحت السيطرة الأردنية، بينما يعيش ما يقارب 450 منهم في الجزء الشمالي الذي سُلم لدولة الاحتلال، والذي عرفه أهالي القرية باسم "منطقة الزون" وفقاً للكلمة الإنكليزية zone.

الشيخ موسى عثمان

كان بيت الشيخ موسى عثمان يقع في منطقة "الزون"، أي تحت الاحتلال الإسرائيلي. بعد تقسيم القرية بأيام، عاد موسى الذي كان حينها يبلغ من العمر 16 عاماً، إلى البيت ليجد أن قوات الاحتلال الإسرائيلي قد طردت أمّه وأبيه وأخاه إلى القسم الآخر من بيت صفافا، الواقع تحت السيطرة الأردنية، فيما بقي هو وأخته البالغة من العمر 10 سنوات في بيتهم. يقول الشيخ موسى: "كان يخشى من بروز والدي كقائد في منطقة "الزون"، خصوصاً أنه كان يملك الكثير من الأراضي، عدا عن رفض أخي المتكرر التعاون مع جيش الاحتلال". 

بصعوبة يُقبل الشيخ موسى على الحديث عن تلك الذكريات، فقد تركته هذه الحادثة أمام مسؤولية العناية بنفسه وبأخته وببيته في سنّ صغيرة، واقتطعته من رعاية والديه. ومنذ ذلك العام وحتى عام 2006 خاض الشيخ موسى معركة قانونية أمام "دائرة أراضي إسرائيل" التي ادعت بعد طرد والده في عام 1949 أن بيته أصبح الآن "أملاك غائبين"، وهو بالتالي من أملاك "الدولة". يستخدم الشيخ موسى وصف "التحرر" ليصف تثبيت ملكيته على بيت والده، ويقول "في عام 2006 فقط تحرر البيت وانتزعت من المحكمة قراراً بملكيته وسجل على اسمي".

وقد تركت هذه التجربة بصماتها على أهالي بيت صفافا، وبدا تأثيرها واضحاً في تفاصيل حياتهم الاجتماعية والاقتصادية. فيما بقي أهالي بيت صفافا الأردنية على تواصل مع أشقائهم العرب، وتمكنوا من الالتحاق بالثانويات والجامعات العربية، لم يكن أمام أهالي "الزون" سوى المدارس اليهودية أو المدارس العربية البعيدة جداً في الناصرة مثلاً، لاستكمال تعليمهم. وبينما توّجه عدد من شباب المنطقة الأردنية إلى الكويت، كغيرهم من الفلسطينيين، للعمل، لم يكن أمام أهالي "الزون" مصدر للزرق سوى العمل كعمال وموظفين في المستعمرات اليهودية القريبة. وقد كان أبناء العائلة الواحدة من قرية بيت صفافا يلتقون في المناسبات والأعياد عند الشريط الحدودي ليتبادلوا التهاني والأخبار، بينما لا يسمح لهم بذلك في الأيام العادية. 

ومن المفارقة الساخرة أن تقسيم القرية وتفريق أهلها بعد نكبة عام 1948 قد انتهى بنكسة عام 1967، حيث استكملت دولة الاحتلال السيطرة على ما تبقى من أرض فلسطين، وما تبقى من أرض بيت صفافا. أزيل الشريط الحدودي من وسط القرية، وسُمي الشارع الذي كان يمرّ منه الشريط في ما بعد بـ "شارع توحيد القرية". "ست الأخوة عليان"، إحدى سيدات بيت صفافا الشاهدات على النكبة والنكسة، تقول: "لم نكن ندري بم نشعر، من جهة التم شملنا مع أهلنا، ومن جهة أخرى لم يحصل لم الشمل هذا إلا بعد هزيمة ثانية، بينما كنا نتوقع نصراً يعيد ما فقدناه من أرض".

دلالات