بعد يومين من الخطابات والمداولات والتراشق في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ومجلس الأمن، صار من الواضح أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والعالم يسيران في الاتجاه المعاكس على طريق من خط واحد.
وضعية لا فرار فيها من المصادمة، التجارية والدبلوماسية والقانونية، وحتى الميدانية، وهو خطر كان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أول المسارعين إلى التنبيه من احتمالاته عندما أعرب عن قلقه من "نمط الوطنية" التي تحدث عنها ترامب في خطابه أمام الجمعية، والذي "يلوّح بالسيادة كأداة للهجوم على الآخرين".
ترامب كان صريحاً في رسم معالم وتخوم عالمه الذي يقوم على التعصب القومي، والحمائية المناهضة لنظام العولمة وإفرازاته وقواعده وترتيباته، والتي ليست غنية بالفضائل في كل حال، لكنه نظام قائم وترسّخ بفعل التداخل العالمي الذي فرضته عولمة المصالح وسرعة الاتصالات والمواصلات، والتي كانت أميركا "أول المستفيدين منه"، حسب ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية.
منظومة يعتزم ترامب تكسير قواعدها واستبدالها بمعادلات مفصلة على قياسات مقاربته الفردية الاستنسابية، وتحمل اسمه كما تحمله أبراجه العالية في نيويورك ومدن أخرى في العالم. التحالف عنده قيد، والاتفاقيات الدولية إجحاف بحق أميركا، والهجرة اجتياح، والشراكة حماية على الآخر دفع ثمنها.
ويعتبر التعاون الدولي، حتى شبه المتكافئ، تطاولا على السيادة الأميركية، والمساعدات الأميركية الخارجية هبة مجانية، في حين يجب أن تكون مكافأة للولاء.
وفي حين يدعو إلى حرية التجارة، لكنه يطالب دول أوبك، وبصيغة تحمل طابع الأمر، بخفض سعر النفط. والأهم، بل الأكثر تناقضاً، أنه يدعو إلى عدم تدخل الدول، ومن ضمنها أميركا، بشؤون غيرها، في الوقت الذي "تتدخل أميركا في أكثر من مكان في أرجاء المعمورة"، كما يقول أحد خبراء مؤسسة "كاتو" للدراسات في واشنطن.
معادلة لم يقبلها عالم الأمم المتحدة، تماماً كما لم يقبل زعمه بأن إنجازات إدارته تفوق ما أنجزه أي من أسلافه، والذي رد عليه الحضور الدولي الرسمي في قاعة الجمعية العمومية بضحكة عفوية هادرة ومعبّرة، توقف عندها المراقبون في واشنطن كتعبير "تهكّمي" دولي محرج ومؤذ، يؤشر إلى مدى الهبوط الذي بلغته سمعة واشنطن في الخارج، بل إلى مدى الاستعداد العالمي لتحدي الدور القيادي الأميركي الذي "تخلت عنه إدارة ترامب" بقدر ما تخلت عن "ورقة تحالفاتها الدولية الثمينة"، كما يرى هاس.
خطاب ترامب السنة الماضية في افتتاح الدورة العادية للأمم المتحدة أثار الخوف من نشوب حرب نووية. هذه السنة أثار القلق من انقلابه المكشوف على التعاون الدولي. حتى الدوائر المحافظة، مثل "أميركان انتربرايز انستيتيوت" للدراسات في واشنطن أعربت عن خشيتها من هذا التوجه. "فأن تلتقي دول تحكمها أنظمة سياسية متباينة حول طاولة مفاوضات لحل خلافاتها هو عمل إيجابي"، يقول أحد باحثيها، داليبار روهاك.
في غياب هذه الصيغة، رغم شوائبها، تصبح الساحة الدولية مكشوفة للمزيد من الفوضى والاستباحات والإملاءات. وفي خطاب الرئيس الأميركي، الواضحة فيه بصمات مستشاره للأمن القومي جون بولتون، مؤشرات في هذا الاتجاه. وكذلك الأمر في كلمته أمس في مجلس الأمن، التي خرج فيها عن موضوع الجلسة، منع انتشار أسلحة الدمار، ليهز العصا في أكثر من اتجاه، خاصة نحو الصين وإيران، التي يكاد يجمع المراقبون على القول إن الاتفاق النووي معها كان كافياً لاحتواء مشروعها النووي ولو إلى حين ثم العمل لتعزيزه بقصقصة دورها في المنطقة وإجبارها على الانكفاء.
موقف جدد الأوروبيون رفضه في كلماتهم في الأمم المتحدة، ما أثار استياء الإدارة الأميركية.
ترامب يتوسل التشدد لحمل إيران على الجلوس على الطاولة، كما فعلت كوريا الشمالية. ويقول: "أنا متأكد أن طهران سترجع إليّ" للتفاوض بعد موجة العقوبات الكاسحة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. رهان "لا يخلو من المجازفة"، حسب المعلق جوش روغان، الذي يحذر من تصعيد مفتوح "لو رفضت إيران الحوار" في ظل الشروط الراهنة.
بمقياس الردود، اندرجت طروحات ترامب ومخاطبته للمجتمع الدولي، خلال الأيام الثلاثة الماضية في نيويورك، في خانة الخسائر. انفصاله عن العالم أثار انتقادات ومخاوف كثيرة في الكونغرس وفي أوساط النخب الفكرية والسياسية، وحتى داخل الإدارة. وخسائره هذه قد تضاف إليها انتكاسة محلية قاسية في اليومين القادمين.
سيكون اليوم نهاراً فاصلاً في رئاسة ترامب. عليه مواجهة اختبارين: البت بوضع نائب وزير العدل رود روزنستاين، بعد الاجتماع معه في البيت الأبيض، وضمان تمرير مرشحه للمحكمة العليا القاضي برات كافانو في مجلس الشيوخ.
التوقعات ترجح تسوية التوتر مع الأول، وإن مؤقتاً، لتلافي تسخين ملف التحقيقات الروسية عشية انتخابات الكونغرس، لكن موضوع القاضي، وهو الأهم، صار مهددا بالخطر بعد توالي اتهامات التحرش الجنسي والاغتصاب ضده من قبل ثلاث سيدات حتى الآن.
اليوم تمثل إحداهن أمام اللجنة العدلية في مجلس الشيوخ لتطرح شكواها ضده.
البيت الأبيض متخوف، والشكوك بدأت تغزو صفوف بعض الجمهوريين من باب أن "لا دخان من دون نار".
ويكفي أن يصوت ضد القاضي جمهوري واحد في اللجنة لكي يسقط ترشيحه. وهذا الصوت، سيكون للسناتور جاف فلاك، المعروف باستقلاله النسبي وبفقدان الود بينه وبين الرئيس. إذا كسب الرئيس هذه الجولة، يكون قد عوض داخلياً خسائره في الأمم المتحدة، وإذا خسرها سيتحول الأسبوع إلى نكسة نوعية لرئاسته، كما للجمهوريين في انتخابات الكونغرس.