كذلك وجه الاتحاد الأوروبي طلباً مماثلاً إلى تركيا، فيما أعلنت الأمم المتحدة أن على المجتمعين المكونين لقبرص الاستفادة من الموارد الطبيعية الموجودة في الجزيرة والمناطق المحيطة بها. وحث المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك الطرفين على بذل جهود للحد من التوترات. أما وزارة الخارجية التركية فردت، الإثنين الماضي، على البيان الأميركي بالقول إنه "لا يمت إلى الحقيقة بصلة". وأضافت، في بيان، أن "دعوة الولايات المتحدة الأميركية، الأحد (الماضي)، تركيا إلى عدم التنقيب في منطقة يدعي القبارصة اليونانيون أنها لهم، وكأن هناك اتفاقية ترسيم حدود سارية، ليست مقاربة بناءة ولا تتماشى مع القانون الدولي".
ويعتبر التدخل الأميركي في هذه الأزمة، إلى جانب الدول التي كونت مطلع العام الحالي ما يسمى بـ"منتدى غاز شرق المتوسط"، وهي مصر وقبرص واليونان وإسرائيل، محاولة لفرض أمر واقع غير متوافق عليه، وقفزة على الصراع السياسي الحدودي المستمر بين تركيا واليونان من ناحية، وتركيا وقبرص من ناحية أخرى، على ترسيم الحدود منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ويبدو أن تحركات تركيا، التي تعتمد على نفسها حالياً في عملية التنقيب المرتقبة، تُثير قلق أطراف دولية، اقتصادية وسياسية، كبرى، فالخلاف القائم ليس سياسياً فقط بطبيعة الحال، لكن الجزء الأساسي منه هو منح امتياز التنقيب في المناطق الاقتصادية البحرية لقبرص، واليونان، ومصر، بالإضافة إلى المناطق التي استولت عليها إسرائيل، لشركات إيطالية وفرنسية وبريطانية وأميركية، تراهن على تحقيق إنجازات مالية استثنائية من الاكتشافات الكبرى المتوقعة في هذه المنطقة، الغنية بالغاز الطبيعي تحديداً.
وخلف هذا المعيار الاقتصادي تأتي اعتبارات أخرى، مثل الخلافات السياسية المتزايدة بين الثلاثي مصر وقبرص واليونان مع تركيا، وسعي نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، على عكس أسلافه، لتحقيق تقارب استثنائي مع خصمي تركيا الإقليميين، على سبيل تصفية الحسابات مع أنقرة التي كانت تدعم الثورة المصرية في يناير/ كانون الثاني 2011، ثم دعمت نظام حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، واستضافت الآلاف من المصريين الذين هربوا من قمع السيسي بعد انقلاب يوليو/ تموز 2013.
مصادر دبلوماسية مصرية تؤكد أن العلاقات المصرية التركية الآن في أسوأ حالاتها، رغم محاولات القاهرة الفصل بين المسارين السياسي والاقتصادي خلال العامين الماضيين، مشيرة إلى أن جهود الأجهزة السيادية المصرية، التي تولت تنسيق الملف الاقتصادي لإبقاء الاستثمارات التركية حية في مصر وجذب استثمارات جديدة، اصطدمت بالتطور السلبي الذي طرأ على علاقة البلدين في ملف حقول الغاز وترسيم الحدود، وهو ما أدى إلى عرقلة تطوير العلاقات الاقتصادية الثنائية خلال العام الحالي. وبموجب اتفاقية تدشين "منتدى غاز شرق المتوسط"، فإن مصر وإسرائيل وقبرص واليونان ملتزمة سوية بحماية حقوقها في تأمين مواردها الطبيعية، بما يتفق ومبادئ القانون الدولي، ودعم جهودها في الاستفادة من الاحتياطات الغازية واستخدام البنية التحتية الموجودة، وإقامة بنية جديدة لتداول الثروات في المنطقة والاستفادة منها.
وأضافت المصادر المصرية أن تحرك الخارجية الأميركية، ومن قبلها الاتحاد الأوروبي، ضد تلويح تركيا بالتنقيب ليس وليد ضغط مصري بطبيعة الحال، لكنه بسبب حماية مصالح اقتصادية لشركات أوروبية وأميركية في هذا الإطار، فضلاً عن حماية إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمصالح الإسرائيلية. فرغم أن إسرائيل تحتفظ بعلاقات طبيعية في جميع المجالات مع تركيا، إلا أن انضمامها إلى هذا المنتدى جاء لحماية وإضفاء الشرعية على الثروات التي استولت عليها في المناطق الاقتصادية للبنان وفلسطين في غفلة من الحكومات العربية. ويستند جوهر هذه الحماية إلى الاتفاقية الموقعة بين الحكومة الإسرائيلية وقبرص لترسيم المناطق الاقتصادية، وهي اتفاقية، رغم عدم معقوليتها ووجود مشاكل عديدة فيها، أضحت واقعاً، بعدما رسمت مصر حدودها الاقتصادية مع قبرص بناءً عليها، رغم عدم ترسيم مصر حدودها البحرية مع فلسطين المحتلة.
يذكر أن العديد من الباحثين يرون أن القاهرة تنازلت طوعاً عن حقوقها في عدد من الحقول الغنية في شرق المتوسط بسبب ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص وتقاسم المياه الاقتصادية بين البلدين بالتساوي، إذ سمحت هذه الاتفاقية لكل من قبرص والاحتلال الإسرائيلي، بالمسارعة لاستغلال حقول غاز طبيعية عملاقة، في مناطق تؤكد تقارير جغرافية وملاحية، مصرية وأميركية، أن النقاط الحدودية للدول الثلاث "تتراكب فيها بما لا يعطي حق الملكية المطلقة لأي طرف". وسارعت إسرائيل، بعدما قامت بترسيم منطقتها الاقتصادية مع قبرص، دون الاعتداد بحق مصر في مراجعة ذلك، إلى إعلان اكتشاف حقل "لفيتان" العملاق في شرق المتوسط (المصدر الرئيسي لتصدير الغاز اليوم إلى مصر)، رغم ابتعاده مسافة 235 كيلومتراً عن آخر نقطة ساحلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي حيفا، وابتعاده 190 كيلومتراً فقط عن ساحل مدينة دمياط المصرية، بحسب دراسات أجراها الباحثان المصريان خالد عودة ونائل الشافعي. وهذه الدراسات كانت محل دعوى قضائية أقامها الدبلوماسي المصري السابق إبراهيم يسري أمام القضاء المصري في العام 2012، لإلزام الرئيس المعزول محمد مرسي بإعادة دراسة الاتفاقية الموقعة مع قبرص، وإبلاغ الهيئات الأممية بالتعدي الإسرائيلي على المياه الاقتصادية المصرية، واستفادة بعض الشركات التي سبق وأجرت أنشطة استكشافية في المنطقة من استمرار تبعية مناطق بعينها لقبرص وإسرائيل، رغم قربها أكثر للشواطئ المصرية، فضلاً عن اعتمادها على حدود افتراضية غير معترف بها دولياً للمياه الإقليمية للاحتلال الإسرائيلي، وهو ما دفع مجلس الشورى، في مارس/ آذار 2013، لتبني مشروع مبدئي لإلغاء الاتفاقية أو تعديلها لتأمين المصالح المصرية.
لكن المشروع البرلماني بإلغاء الاتفاقية ذهب أدراج الرياح بعد إطاحة السيسي بحكم مرسي، ليبدأ سياسة جديدة إيجابية نحو إسرائيل وقبرص واليونان، تمادياً في الخصومة مع تركيا. وبدأ فور عزل مرسي محادثات جادة لغلق ملف الحدود البحرية مع قبرص، ليس للتعديل، بل بتفعيل اتفاقية الترسيم، وهو ما كان الرئيس المخلوع حسني مبارك يخشى القيام به، إذ كان الأخير حذراً ويرى ضرورة تأجيل حسم ملف الحدود وتقاسم ثروات المتوسط في المناطق المتشابكة إلى حين تسوية النزاعات التركية اليونانية من جانب، ولعدم التورط في الاعتراف بحدود المياه الإقليمية المزعومة لإسرائيل من جانب آخر.
ولا تقتصر شبكة المصالح الشرق متوسطية ضد تركيا عند هذا الحد، فمن مهام المنتدى الجديد أيضاً إنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب، وتنمية الموارد وترشيد كلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية، وتحسين العلاقات التجارية بين الأطراف. وفي هذا السياق، أشارت المصادر المصرية إلى طرح العديد من الأفكار بين مصر وإسرائيل وقبرص تحديداً في الفترة الحالية لتنفيذ البند الخاص بالبنية التحتية. ومن المقرر حالياً توسيع شبكة الأنابيب المقامة، والمملوكة حالياً لشركة جديدة أسست خصيصاً لامتلاك شبكة الأنابيب، بين شركتي "نوبل إنيرجي" الأميركية، و"ديليك" الإسرائيلية وشركة "غاز الشرق" المملوكة للدولة المصرية، ممثلة في جهاز الاستخبارات العامة وهيئة البترول، بحيث يتم توسيع الشبكة لتشمل قبرص، بهدف الاستفادة من مصنعي إسالة الغاز في مصر واللذين ستستفيد منهما حكومة الاحتلال أيضاً.
ويؤدي الاستحواذ المصري الإسرائيلي بالكيفية المذكورة سلفاً على شبكة الأنابيب لأن يصبح حقل "لفيتان" هو المصدر الرئيس للغاز في منطقة شرق البحر المتوسط، إذ سيتم تصدير الغاز إلى مصر بناءً على الاتفاق الأخير عبر شركة "دولفينوس" المملوكة لمستثمرين محليين، والمتفقة بدورها مع شركة "غاز الشرق" البترولية المصرية، لتوجه الغاز المستورد إلى مصنع الإسالة الموجود في ميناء دمياط والمملوك لتحالف بين شركتي "يونيون فينوسا" الإسبانية و"إيني" الإيطالية، فضلاً عن توجيه كميات أخرى إلى أماكن أخرى داخل مصر. وبدخول قبرص في هذه المعادلة، ستتم مضاعفة الكميات الواردة لمصر بغرض الإسالة ثم إعادة تصديرها. ويتبين من تركيبة المصالح في مشاريع البنية التحتية، وصولاً إلى المشروع المقرر بخلق شراكة مستدامة بين دول المنتدى لبيع منتجاتها بأسعار موحدة أو متقاربة، ومشاركة أكثر من دولة في الإنتاج، أن أي تحرك تركي لن ينال فقط من فرص دول المنتدى في تحقيق ما تصبو إليه من مكاسب، بل سيؤثر سلباً على مصالح شركات عملاقة من جنسيات مختلفة، باتت تشكل اقتصاديات أضخم من اقتصاديات بعض دول المنطقة، الأمر الذي ينذر بعدم حل الأزمة في المستقبل القريب.