وتجري انتخابات الإعادة في جو تنافسي بين الحزب الحاكم وحلفائه من جهة، والمعارضة من جهة أخرى. وقد اضطرّ الطرفان في خضمّ هذا التنافس إلى تبديل استراتيجياتهما لمحاولة كسب الناخبين لضمان الفوز في استحقاق تتجاوز أهميته الشقّ البلدي، خصوصاً أنّ نتائج انتخابات الإعادة في إسطنبول التي تقتصر على منصب رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، من دون إعادة انتخابات البلديات الصغرى أو أعضاء المجلس البلدي، قد تسفر عن إعادة رسم المشهد السياسي في البلاد، لا سيما في حال مواصلة المعارضة تفوّقها في معاقل الحزب الحاكم. وسبق أن فازت المعارضة في أنقرة وإسطنبول وإزمير وأنطاليا، كبريات المدن التركية، وكانت قاب قوسين أو أدنى من انتزاع مدينة بورصا أيضاً، قبل أن تتخذ الهيئة العليا للانتخابات قرارها بإلغاء نتائج الانتخابات في إسطنبول، والتي جرت في 31 مارس/ آذار الماضي.
وكان مرشّح المعارضة أكرم إمام أوغلو، قد فاز في إسطنبول، على منافسه مرشح الحزب الحاكم، بن علي يلدريم، بفارق تجاوز 13 ألف صوت، والذي عدّ فارقاً قليلاً جداً قياساً بعدد الناخبين في المدينة. وقد أظهرت النتائج الأولية في تلك الانتخابات، تفوّق إمام أوغلو بفارق تجاوز 29 ألف صوت، إلا أنّ اعتراضات "العدالة والتنمية" على الأصوات الملغاة وطلب إعادة فرز بعض الصناديق، قلّص الفارق إلى أكثر من 13 ألف صوت، فيما تمّ رفض إعادة فرز كامل الأصوات، ليتقدّم "العدالة والتنمية" بطعن على اعتبار أنّ الفارق انخفض بشكل كبير بعد فرز 10 في المائة من الأصوات فقط، إلى جانب اعتراضه على تعيين رؤساء لجان اقتراعية وأعضاء من خارج ملاك القطاع العام، وبسبب وجود جداول غير موقعة، وتسجيل عناوين وهمية، الأمر الذي استجابت له الهيئة العليا للانتخابات، وألغت النتائج، وقررت الإعادة في 23 يونيو/ حزيران الموافق اليوم.
وبناءً على هذا القرار، وبعد تحليل نتائج الانتخابات، بدأ كل مرشح في اعتماد استراتيجيات جديدة، فعمل حزب "العدالة والتنمية" على مراجعة حملته السابقة وتغيير لغة الخطاب، ومحاولة استقطاب كل شرائح المجتمع، وإبراز بن علي يلدريم على نحو أفضل، وطرح مشاريع جديدة. وكان "العدالة والتنمية" يعتمد على الإنجازات فقط في السنوات السابقة، متناسياً التحولات الاقتصادية في البلاد من ارتفاع نسبة التضخّم، وانهيار العملة المحلية، وارتفاع الأسعار، ما أثّر على الناخبين. لذلك، ظهرت مشاريع جديدة ومكثّفة من قبل يلدريم، اختلفت عن السابق. وفوق ذلك، استجاب للمناظرة المباشرة مع إمام أوغلو، فيما كان "العدالة والتنمية" رفض على مدار 17 عاماً من الحكم، الظهور في أي مناظرة مباشرة علنية، على عكس ما تمّ الأحد الماضي، لتشاهد تركيا المناظرة بين المرشحين المتنافسين.
في المقابل، ركّزت المعارضة على استراتيجية المظلومية من قبل الهيئة العليا للانتخابات ووقوع الأخيرة تحت تأثير الحزب الحاكم، وأكّدت العمل على استعادة الحق المغتصب حتى النهاية. وبنت استراتيجيتها الجديدة على هذا الشقّ. وهو ما بدا جلياً في المناظرة أخيراً، إذ استغرق إمام أوغلو نحو ساعة من أصل ثلاث ساعات، في الحديث عن مرحلة ما بعد الانتخابات، وكيف تعرّض لمؤامرة من الحزب الحاكم وآلته الإعلامية، حسب تعبيره.
وحدّدت المناظرة التاريخية التي جرت الأحد الماضي، نقاط القوة والضعف لكل مرشّح في انتخابات الإعادة، خصوصاً أنّ فترة ما قبل المناظرة شهدت حالة من العصبية والتوتر من قبل إمام أوغلو، وصلت إلى حدّ إهانته والي مدينة أوردو، سيدار يافوز، ووصفه بـ"الكلب" حين منعه رجال الأمن من استخدام صالة كبار الشخصيات في مطار أوردو. وهو ما أنكره إمام أوغلو، لكن عدسات الكاميرات وثقته.
وعلى الرغم من كل هذا، فإنّ المناظرة هي التي حكمت، وفيها سجّلت نقاط لصالح كل طرف مقابل سلبيات لكل منهما. فيلدريم ظهر قوياً هادئاً في المناظرة، وقدّم إجابات جيّدة في ما يتعلّق بالمشاريع والحلول للمشاكل التي تعاني منها إسطنبول. كما بانت عليه الخبرة السياسية، واستطاع النيل مرات عدة من خصمه، لا سيما في ما يتعلق بوعود أطلقها، متهماً إياه بـ"الكذب". في حين كان من العلامات السلبية بالنسبة ليلدريم ظهور تقدّم العمر عليه، وعدم تقديم إجابة كافية بالحديث عن مسألة سرقة الأصوات التي حصلت في انتخابات 31 مارس، وفق ادعاءات "العدالة والتنمية"، وحول توقّف وكالة "الأناضول" الرسمية عن عرض النتائج بعد تقدم إمام أوغلو.
على الطرف الآخر، يُحسب لإمام أوغلو في المناظرة طاقته الحيوية وأجوبته الشافية، واستعداده الجيد، ودفاعه عن حقه بالفوز في الانتخابات. في المقابل، أُخذ عليه تقديم مشاريع حقيقية طموحة، لا يمكن تنفيذها عبر البلدية لوحدها، وبحاجة للتعاون مع الحزب الحاكم وهو أمر غير ممكن، فضلاً عن إخفاقه في قول الحقيقة بموضوع إهانة والي أوردو الذي يتم التحقيق فيه. كما سُرّبت له مشاهد مصورة من أحد الفنادق تظهر لقاء إمام أوغلو مع مدير المناظرة، المذيع في قناة فوكس التركية، إسماعيل كوجوك كايا، لمدة تزيد عن 45 دقيقة، بعد أن اعترف المذيع بلقائه به لدقائق قليلة، مقابل اتصال مع يلدريم. وقد اتهم "العدالة والتنمية" المذيع بالانحياز لطرف المعارضة، وعدم الحياد، ما أثّر على نتائج المناظرة.
ووفقاً لما سبق، فإنّ استطلاعات الرأي التي أجريت خلال الأسبوع الأخير الذي سبق الانتخابات، فشلت في الوصول إلى أرقام هامة حول نتائج الانتخابات، وإن كانت تشير إلى أنّ "العدالة والتنمية" حقّق مزيداً من كسب المؤيدين. وهؤلاء جزء من الناخبين المقاطعين الذين لم يصوتوا في الانتخابات السابقة، ويقدّر عددهم بأقل من 2 مليون ناخب، إذ جرت استمالتهم وإقناعهم بالتصويت لصالح الحزب الحاكم. ويضاف إلى ذلك كسب جزء من أصوات حزب "السعادة" الإسلامي الذي تحالف مع المعارضة، ونال قرابة مائة ألف صوت في الانتخابات السابقة، فيما يتوقّع أن يصوت 75 ألفاً منهم لصالح يلدريم، بعد لقاءات أيضاً بين "العدالة والتنمية" و"السعادة" جرت في الأيام الماضية، ناهيك عن مخاوف من توجهات المعارضة العلمانية. وفي حين أنّ الاستطلاعات الأولى كانت تشير إلى تفوق إمام أوغلو، الذي تنظر استطلاعات رأي أخرى إلى إمكانية كسبه أصوات المحافظين، خصوصاً أنه استخدم في المناظرة لغة تخاطبهم، ووعد بعدم السماح بالاختلاط في مسابح البلدية، وعدم تقديم المشروبات الكحولية في منشآت البلدية الاجتماعية، فإنّ خلاصة النتائج لن تكون واضحة حالياً، بانتظار أن يقول الناخبون في إسطنبول كلمتهم النهائية في صناديق الاقتراع، خصوصاً أنّ الرئيس رجب طيب أردوغان كان قال إنّ نتائج استطلاعات الرأي لا تقدّم أرقاماً دقيقة، ولن يتم الاعتماد عليها.
وما يزيد من غموض ما ستحمله صناديق الاقتراع اليوم، ورقة الصوت الكردي، خصوصاً أن تقديم حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي الدعم للمعارضة في إسطنبول وأنقرة في انتخابات 31 مارس، والذي ساهم في ترجيح كفة إمام أوغلو، غير مضمون هذه المرة في جولة الإعادة. وتبع انتخابات 31 مارس الماضي، تحركٌ من قبل "العدالة والتنمية"، بالسماح لزعيم حزب "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، بلقاء محاميه بعد 8 سنوات من العزل، وتوجيهه رسائل لأنصاره بالتهدئة مع الحكومة، ووقف الإضرابات عن الطعام. وقد وصل الأمر إلى حد توجيه أوجلان رسالة إلى "وحدات حماية الشعب الكردية" في سورية، بمراعاة مصالح تركيا، انتهاءً برسالته الأخيرة للناخبين الأكراد يوم الخميس الماضي والتي دعاهم فيها إلى التزام الحياد في انتخابات الإعادة في إسطنبول، ما يعني أنّ إمام أوغلو قد يخسر نسبة من الأصوات لصالح "العدالة والتنمية". ويريح هذه التطور الحزب الحاكم. واتهمت المعارضة الحزب الحاكم باللجوء إلى الاتفاق السري مع "العمال الكردستاني"، الذي تصنفه أنقرة إرهابياً، فقط لحماية وجوده في السلطة.
وعلى الرغم من نفي أردوغان وجود هكذا توجه من قبل "العدالة والتنمية"، واعتبار أنّ رسالة أوجلان تعبير عن "صراع قيادات بين الأحزاب الكردية"، إلا أنّ هناك شبه إجماع من قبل المراقبين والمتابعين، على أنّ الحزب الحاكم يسعى بشتى الوسائل من أجل عدم خسارة المعركة والحفاظ على الحكم كي لا تشهد البلاد انتخابات مبكرة خلال السنوات الأربع المقبلة قد تعيد رسم الخارطة السياسية، في ظلّ وجود مساعي تشكيل أحزاب سياسية جديدة على أنقاض الحزب الحاكم، من قبل رفاق أردوغان السابقين، وأبرزهم رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، والوزير السابق علي باباجان.