وبينما كان سركيسيان يعلن استقالته، وتتحدث التقارير عن تعيين النائب الأول لرئيس الحكومة في أرمينيا، كارن كارابيتيان، رئيساً مؤقتاً للحكومة، كان باشينيان يظهر بين مؤيديه الذين خرجوا، أمس الاثنين، لليوم الحادي عشر على التوالي في مسيرات في العاصمة يريفان، وقادوا معه حركة الاحتجاجات ضد سركيسيان وهو الرئيس السابق الذي يتهمونه بأنه متمسك بالسلطة جراء تعيينه رئيساً للوزراء مع صلاحيات معززة، بعد أن أمضى عشرة أعوام على رأس الدولة.
ولخص أحد المتظاهرين، ويدعى كارن خاتشاريان، وهو طالب يبلغ 23 عاماً، مدى الغضب من سركيسيان بقوله "سيرج سركيسيان زعيم لديه عقلية سوفييتية. وعالم اليوم يفرض علينا أن نظهر مقاربة جديدة في وجه المشاكل".
وتعددت التفسيرات بشأن الدوافع التي سرّعت من قرار استقالة سركيسيان، لكن ما جرى لا يمكن فصله عن جملة من التطورات والحسابات، بعضها داخلي بحت وبعضها الآخر قد لا ينفصل عن حسابات الحليف الروسي الذي استشعر القلق مما يجري في أرمينيا.داخلياً، فشل سركيسيان في إخضاع زعيم المعارضة ودفعه لتقديم تنازلات سياسية رغم اعتقاله، بل جاءت هذه الخطوة بنتائج عكسية بعدما خرجت تظاهرة حاشدة وغير مسبوقة في أعقاب اعتقال باشينيان يوم السبت. كذلك شهدت الاحتجاجات، أمس، تطوراً بارزاً تمثل في مشاركة مجموعة من الجنود في المسيرات الاحتجاجية، الأمر الذي لم تستطع وزارة الدفاع إخفاءه فخرجت لتتعهد بـ"ملاحقة" هؤلاء الجنود في "لواء حفظ السلام (...) الذين انتهكوا القانون" عندما شاركوا في المسيرة المناهضة للحكومة. وجاء في بيان صدر عن الوزارة: "تصرف هؤلاء العسكريين ليس انتهاكاً لنظام تمركزهم وتخلياً عن واجباتهم فحسب، بل عصيان صارخ لمبدأ عدم تدخل القوات المسلحة في العمليات السياسية. ويجب أن يثير ذلك قلقاً لدى المنظمات الدولية".
كما يربط البعض بين قرار رئيس الوزراء وبين المخاوف من تمدد الاحتجاجات وما يمكن أن تفضي إليه من تداعيات لن تقتصر على أرمينيا، خصوصاً بعد أن أعلن قادة التظاهرات عن بدء "ثورة سلمية" في أرمينيا، داعين إلى الاعتصام داخل المباني الحكومية.
ويرجع الخبير في مركز دراسات القوقاز وآسيا الوسطى في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أندريه أريشيف، "احتجاجات أرمينيا إلى استياء المعارضة من تعيين سركيسيان رئيساً للوزراء رغم تأكيداته السابقة أنه لا يطمح في شغل مناصب قيادية في الدولة، فيتهمه المعارضون بإعادة إنتاج سلطته". وكان سركيسيان انتقل من منصب رئيس الدولة إلى رئاسة الحكومة على أثر إجراء إصلاح دستوري زاد من صلاحيات الحكومة والبرلمان.
ويلفت أريشيف إلى أن "أغلب الأطياف السياسية تدرك أن أذربيجان قد تستغل الاضطرابات الداخلية في أرمينيا لاستعادة السيطرة على إقليم قره باغ المتنازع عليه، ناهيك عن تأثيرها السلبي على الاقتصاد الأرميني وزيادة حركة الهجرة من البلاد".
وتعود جذور النزاع المسلح في إقليم قره باغ، ذي الأغلبية الأرمينية، إلى الإعلان عن قيام جمهورية قره باغ بشكل أحادي الجانب في عام 1991، واستمر حتى عام 1994 وأسفر عن فقدان أذربيجان السيطرة على الإقليم، متحولاً بعد التوصل إلى اتفاق الهدنة إلى نزاع متجمد.
كما تثير الموجة الحالية من الاحتجاجات مخاوف موسكو من قيام نظام آخر معاد لها بالقرب من الحدود الروسية على غرار جورجيا وأوكرانيا، ما دفع الخارجية الروسية إلى الدعوة لتسوية الوضع "بطريقة ديمقراطية وفي إطار القانون"، بينما ركز الخطاب الإعلامي الرسمي الروسي على ما قال إنه "دعم خارجي" للاحتجاجات لإضعاف موقف روسيا في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق. وتعد يريفان حليفاً مهماً لموسكو في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، وهي بلد عضو في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقرغيزيا، كما تقع القاعدة العسكرية الروسية الـ102 في مدينة غيومري الأرمينية.
وفي السياق، يشير أريشيف إلى أن موسكو تسعى لأن تكون السلطة في أرمينيا قابلة للتنبؤ بأعمالها، متوقعاً أن تغيير النظام، في حال حدوثه، سيتسبب في أزمة في العلاقات مع روسيا.
من جهته، يرى المحلل السياسي الأرميني، أريغ غالستيان، أن أرمينيا تظهر مرة أخرى أن نجاح النخب السياسية مرهون بقدرتها على مواكبة التغييرات، معتبراً أن "الاستراتيجية السياسية الداخلية غير المدروسة مجتمعة مع استشراء الفساد والرشاوى، دفعت بالجمهورية الواقعة في جنوب القوقاز إلى حافة الهاوية السياسية".
وفي مقال بعنوان "تراجيديا الاحتجاجات الأرمينية"، نشر في صحيفة "غازيتا.رو" الإلكترونية الروسية، يذكّر غالستيان بوعود سركيسيان العلنية بعدم الترشح لرئاسة الحكومة، ولكنه بمخالفته هذا الوعد تسبب في شعور الشعب بأنه خُدع، ليصدر إشارة للنخبة الحاكمة بأن ذلك لن يمر مرور الكرام.
وكانت أرمينيا قد شهدت في نهاية عام 2015 استفتاء على التعديلات الدستورية أسفر عن تقليص صلاحيات الرئيس والانتقال إلى نظام حكم برلماني، ما مهد الطريق لبقاء سركيسيان على رأس السلطة لفترة غير محدودة في منصب رئيس الوزراء، بعد أن شغل منصب الرئيس لمدة عشر سنوات. ورأت المعارضة الأرمينية آنذاك أن السلطات أجرت الاستفتاء بهدف البقاء في السلطة وليس لإصلاح المنظومة السياسية.
وما يزيد من متاعب أرمينيا البالغ عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين نسمة، هو الوضع الاقتصادي المتردي للبلاد وسط توقعات بارتفاع الدين الخارجي إلى أكثر من سبعة مليارات دولار (60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) في العام المقبل، وتراجع تحويلات المغتربين الأرمن التي يعتمد عليها الاقتصاد الأرميني بشكل كبير.