لا يتوقف بعض المثقفين العرب من باب الدفاع عن أوروبا وعن "الاتحاد الأوروبي الليبرالي"، عن مهاجمة رجب طيب أردوغان بحجج كثيرة، بعضها محق، ولكنه يخفي من جانب آخر خللاً في البوصلة لدى هؤلاء "المثقفين". أردوغان لم ولن يكون تهديداً ضد ما قد يكون "آخر قلاع الديمقراطية وحقوق الإنسان" أي الاتحاد الأوروبي، ولكن التهديد لهذا الصرح آتٍ من الداخل، أي من اليمين العنصري القومي المعادي للاتحاد الأوروبي وللمسلمين وللعرب وللأجانب، والذي لا يتوقف عن الاستمرار في خطاب كراهيةٍ مستمر منذ سنوات عديدة كان من الأحرى أن يزعج المثقف العربي أكثر من أي إنسان آخر. يستمر بعض المثقفين والكتاب العرب بقذف عدم رضاهم في كل شيء وفي جميع الاتجاهات، مبررين ذلك تارة بالدفاع عن القيم الإنسانية ومرة أخرى بتهديدات الآخر أياً كان فارسياً أو تركياً أو صهيونياً. وفي أي معركة خارجية، لا يبدو بأن هؤلاء يأخذون في اعتبارهم مصالحهم الخاصة كأشخاص ينتمون بالضرورة لمجتمع عربي ومسلم بات مهدداً في كل مكان في الخارج مع تصاعد الإسلاموفوبيا، فيستمرون في اتخاذ وضع القوقعة الملازم للأقلية الليبرالية في المجتمعات العربية والمعادية بالضرورة للأنظمة الديكتاتورية، من دون أخذ أي اعتبارات أخرى.
الأزمة بين هولندا وتركيا ليست معركة بين أردوغان المتسلط والاتحاد الأوروبي أو بين أوروبا المتعالية وتركيا الصاعدة فحسب، بل لها جوانب أخرى عديدة لابد من النظر لها. أردوغان لا يحارب في هذه المعركة ضد القيم الأوروبية التي تتبنى حقوق الإنسان والديمقراطية الليبرالية، وما إلى ذلك من قيم جميلة لا يختلف عليها عاقلان، بل إن معركة أردوغان هذه المرة في أحد جوانبها ضد اليمين العنصري القومي الأوروبي الذي يشكل التهديد الأبرز والأهم للاتحاد الأوروبي ذاته. لم تكن الأزمة بين حكومة العدالة والتنمية وأمستردام في أحد جوانبها سوى المواجهة الأشرس مع هذا التيار، الذي نجح، ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في جرّ أوروبا نحو الهاوية، إذ تمكن من اللعب على "معاداة الأجانب" ومن ثم معاداة اللاجئين والإسلاموفوبيا، وهذا ما يجب أن لا يتم التغاضي عنه، لأنه يغذي التطرف في مجتمعاتنا التي ينهشها "داعش" و"القاعدة" والحشد الشعبي.