وخلال المراحل الخمس الماضية في تاريخ تشكيل الحكومات العراقية، مرّت عملية بناء الحكومة بعقبات ومشاكل وتعرجات كثيرة، أبرزها "المحاصصة"، أي تقاسم السلطة في البلاد بين المكونات العراقية على حسب المذاهب الدينية والنسب السكانية للقوميات، وتحوّلت المحاصصة فيما بعد إلى "طقس ثابت وعرف سياسي". وكان السياسيون العراقيون يتجاوزون المدد الدستورية التي ينص عليها القانون.
وعبر أول انتخابات وأكثرها مشاركة في تاريخ ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، التي أجريت في 30 يناير/ كانون الثاني 2005، أتى إبراهيم الجعفري رئيساً جديداً للوزراء لحكومة انتقالية، وتم اختياره بالتوافق الذي لم يتأخر إعلانه أكثر من أسبوعين وبقي في المنصب حتى منتصف عام 2006.
بعدها نجح نوري المالكي في الوصول إلى سدة الحكم يوم 20 مايو/أيار 2006. وتولى المالكي المنصب أول أيامه وكان اسمه جواد المالكي قبل إعلان اسمه الحقيقي وهو نوري المالكي، قائلاً إن الاسم السابق كان يستخدمه خلال عمله في المعارضة متنقلاً بين سورية وإيران. واستغرق الاتفاق على نوري المالكي شهراً كاملاً بعد إجراء الانتخابات وتصديق النتائج، إذ كان هناك رفض سني كردي لتولّي الجعفري منصب رئيس الحكومة مجدداً بسبب اتهامه بالمسؤولية عن الفتنة الطائفية التي ضربت العراق وانحيازه لمليشيات المهدي وبدر والعصائب وفرق الموت في التصفيات الطائفية. وكانت القيادات السنية والكردية قد دافعت عن تولي المالكي المنصب باعتباره خيارا أفضل من الجعفري، قبل إعرابها عن ندمها في مناسبات عدة بسبب الوجه الثاني له. وتولى المالكي المنصب وبدأ بمنح نفسه صلاحيات واسعة، وربط الأجهزة الأمنية بمنصبه، لا سيما وزارتي الداخلية والدفاع، وجهاز الأمن الوطني، واستحدث نظام النقاط بين المكونات، بمعنى أن لكل مكون طائفي بالعراق نقاطا تستخدمها في تمثيلها الحكومي، فالوزير على سبيل المثال تقابله 15 نقطة، وهكذا صار للشيعة حصة وزراء وكذلك للسنة والأكراد.
ومع بداية حكم المالكي، دخل العراق مرحلة جديدة، بتغول الجماعات الإرهابية والمليشيات الطائفية، مثل "جيش المهدي" التابعة لمقتدى الصدر، والعصائب وبدر، التي نفذت عمليات قتل وتطهير طائفي واسعة في بغداد وديالى والبصرة وبابل وواسط ومدن عراقية، وكانت الشريك الرئيس لتنظيم القاعدة في موجة العنف الدموي التي اجتاحت العراق بعد الاحتلال. كما كان لإيران الدور الأبرز في الولاية الأولى للمالكي وعرف العراقيون لأول مرة مصطلح الانتداب الإيراني أو الوصاية الإيرانية في العراق.
ربح المالكي ولاية ثانية لحكم البلاد، بعد حصول "ائتلاف دولة القانون"، وهي قائمته الانتخابية، على المرتبة الثانية بعد قائمة إياد علاوي في الانتخابات البرلمانية، التي أجريت في 7 مايو 2010، وبعد ثمانية أشهر من المفاوضات السياسية، جرت وسط أجواء مضطربة، وتحيز واضح للقضاء العراقي الذي أقصى علاوي من استحقاق تشكيل الحكومة ومنحه للمالكي ضمن تفسير جديد لعبارة "الكتلة الكبرى" التي لها حق تشكيل الحكومة وقال إن "المقصود فيها هو التي تتشكل داخل البرلمان وليس التي تفوز في الانتخابات".
وتوصل المالكي إلى تشكيل حكومته الجديدة. ولم تكن له حينها الصلاحيات الكاملة في إدارة الدولة، بسبب الوجود الأميركي. وما أن خرج الأميركيون في نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 بأمر من الرئيس السابق باراك أوباما، حتى بدأت مشاكل العراق تتخذ منحى خطيراً وهو انتهاج عملية إقصاء طائفية للعراقيين السنة من المناصب والوظائف الحكومية وتنفيذ سياسة عزل في مناطقهم وإفقار واضحة، عدا عن امتلاء السجون والمعتقلات بمئات الآلاف منهم وإخضاع القضاء والهيئات المستقلة الأخرى لسلطته وفتح باب صراع واسع مع إقليم كردستان الذي كان يترأسه مسعود البارزاني.
انتهت ولاية المالكي الثانية، باحتلال تنظيم "داعش" لأكثر من 44 في المائة من مساحة العراق، مستغلاً انتفاضة العشائر العربية ضد سياسة المالكي الطائفية عندما اجتاح البلاد زحفاً من الأراضي السورية، فانهار الجيش الذي تبين أنه كان منخوراً بشكل كبير بفعل الفساد الحزبي. وسعى المالكي، في أغسطس/ آب 2014، لتولي رئاسة وزراء العراق لفترة ثالثة، لكنه فشل في مساعيه مع وجود تحفظ أميركي عليه وعدم ممانعة إيرانية في استبداله بسبب الفوضى التي أحدثها خلال سنوات حكمه للبلاد.
وبعد انتخابات العراق لعام 2014، وفي خضم أزمة "داعش" واحتلاله لمدن العراق الشمالية والغربية، قرر "التحالف الوطني" ترشيح حيدر العبادي نائب المالكي في حزب الدعوة ليكون رئيس الوزراء، ووافقت عليه أغلب الكتل السياسية، وتم تكليفه في وقت قياسي بالمنصب، لكن المالكي رفض الإقرار بذلك. حتى أنه أعلن أن رئيس الجمهورية فؤاد معصوم، خرق الدستور. وواجه العبادي مرحلة حرجة خلال فترة حكمه، فالحرب على "داعش" كانت مستمرة، والشعب في الجنوب والوسط، تظاهر من أجل إصلاح ما خربه المالكي، وفي 9 أغسطس/آب 2015 أعلن العبادي عن مجموعة قرارات وإصلاحات أبرزها إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية (نوري المالكي وأسامة النجيفي وإياد علاوي) ونواب رئيس مجلس الوزراء، في استجابة للاحتجاجات الشعبية.
وعلى الرغم من مرور قرابة المائة يوم على إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة، في 12 مايو/أيار الماضي، إلا أن الأحزاب العراقية لا تزال عند نقطة الصفر، ولم تتوصل إلى أي اتفاق يفضي إلى تشكيل الحكومة الجديدة، لنفس الأسباب التي شهدتها البلاد في الماضي، وهي المحاصصة الطائفية والحزبية، مع ظهور تهديدات باللجوء إلى المعارضة السياسية. وضع لم تعهده أحزاب العراق الإسلامية الجديدة، إذ ظهر زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، المتصدر بنتائج الانتخابات، بحزبه "سائرون"، ملوحاً بخيار المعارضة في حال تم العمل على تشكيل الحكومة المقبلة بنفس العقلية الماضية، فيما رفض توزيع المناصب على المكونات العراقية (السنة والشيعة والأكراد) بحسب النتائج والنسب السكانية.
في السياق، قال النائب السابق عن التحالف الوطني حبيب الطرفي، لـ"العربي الجديد"، إن "الأوقات التي استغرقتها الحكومات الماضية في تشكيل هيئتها، مؤلمة، وقد تجاوزت على الدستور العراقي لأكثر من مرة"، مبيناً أن "العمل الحالي بين الأحزاب السياسية يقوم على مبدأ التوافقات السياسية، وهو نفس إطار المحاصصة السابقة، لكن الأمر الذي اختلف الآن هو أن الشعب العراقي صار يتظاهر ويحتجّ، على عكس السابق".
وأضاف أن "الأحزاب السياسية الحالية عليها عدم تكرار المشاكل التي حصلت في الحكومات السابقة، لأن المتظاهرين صاروا عامل ضغط على الحكومة وهم دائماً على أبواب المسؤولين، وهناك أحزاب تريد أن تمدد سقفها الزمني، وتجاوز الدستور"، مشيراً إلى أن "الحكومات السابقة تأخرت في ترتيب نفسها، بسبب المحاصصة التي كانت في أوج ظهورها، ولم أحد يعارضها، أما اليوم فهناك جبهات سياسية تعارض المحاصصة متمثلة بمرجعية النجف (علي السيستاني) ومقتدى الصدر".
ولفت إلى أن "مفهوم المحاصصة انتهى، لكن، الأمر الذي لا يختلف عن المحاصصة، والذي ظهر أخيراً هو الخطابات الجديدة، مثل مفهوم الأغلبية السياسية، والأغلبية الوطنية. كل الأحزاب تريد مكاسبها ومغانمها حالياً، وهذا سبب التأخير في تشكيل الحكومة، وقد تتأخر أكثر من هذا الوقت".
بدوره، أشار المحلل السياسي العراقي، أحمد الشريفي، إلى أن "الحكومات السابقة جميعها تجاوزت على المدد الدستورية، خلال فترة التشكيل والتأسيس، ومن ثم كلها تضطر إلى أن تتشكل على عجالة، وما من حكومة عراقية تشكلت بشكل طبيعي، فقد كانت عبارة عن محاصصة وتوافق بين المكونات، وتبقى حتى آخر لحظة بسجالات التوافق والبحث عن الامتيازات. وهذه السجالات هي السبب بتأخر اكتمال شكل الحكومة"، موضحاً في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "الحكومة التي يترقبها العراقيون ستكون أكثر تعقيداً وستستغرق وقتاً أكثر من الحكومات السابقة، وإلى الآن لا توجد بوادر اتفاقات بين الأحزاب".
وقال إن "الكتل السياسية في السابق كانت متفاوتة في أعداد المقاعد التي تفوز بها في الانتخابات، أما اليوم فالكل تقريباً متساو، وهذا الأمر جعل الأحزاب تتحد بالقوى، ما جعل السياسيين يشترطون على بعضهم البعض في قضية التحالفات والامتيازات، مع وجود تباعد في الرؤى والأفكار التي يحملها كل حزب"، لافتاً إلى أن "تشكيل الحكومة المقبلة، قد يتبلور وتتبين نهايته حين يظهر القرار الدولي بذلك، لاسيما أن الأمم المتحدة مستغربة مما حدث خلال الفترة الماضية من تعطل الأجهزة الإلكترونية التي استخدمت في عدِّ الأصوات، وحرق محطات انتخابية ومشاكل واتهامات. وانتهى الأمر إلى حلِّ مجلس مفوضية الانتخابات والعودة إلى العد اليدوي. ربما خلال الفترة المقبلة سنشهد تدخلاً دولياً في تشكيل الحكومة، وقد يكون خيار حكومة الطوارئ حلاً مطروحاً".