وفي هذا الإطار، يشير المؤرخ الروسي الأميركي المقيم في بوسطن، يوري فيلشتينسكي، إلى أنه منذ غض بريطانيا الطرف عن تسميم الضابط السابق في الاستخبارات الروسية، ألكسندر ليتفيننكو، في العام 2006، استخلصت موسكو درساً مفاده بأنه "لن يكون هناك عقاب على الجريمة". ويقول فيلشتينسكي، الذي ألّف عدة كتب في تاريخ الاستخبارات السوفييتية والروسية، لـ"العربي الجديد"، "للأسف، فإن النتيجة الوحيدة التي خرجت بها الحكومة الروسية من وفاة ليتفيننكو، هي أنه لا عقاب على الجريمة. كما لم تعد القيادة الروسية مهتمة برأي الغرب".
وحول العوامل التي تزيد من صعوبة التحقيق، يوضح "على عكس القتل رمياً بالرصاص، فإن التسميم يزيد من صعوبة التحقيق. إذ يجب أولاً الإثبات أن الضحية سُممت فعلاً، ثم تحديد نوع السم ومن يقف وراء ذلك، ومن الصعب للغاية إثبات أي شيء. في حالة ليتفيننكو، الذي تم تسميمه في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2006، استغرق التحقيق بضع سنوات. وحتى بعد إثبات كافة التهم أمام القضاء البريطاني وتقديمها، رفض الكرملين الاعتراف بمسؤوليته عن الواقعة". وكان ليتفيننكو، ضابطاً سابقاً في الاستخبارات السوفييتية ثم الروسية، هرب إلى بريطانيا في العام 2000، وتم تسميمه بالنظائر المشعة لمادة البولونيوم-210 في العام 2006، ما تسبب في فتور العلاقات الروسية- البريطانية.
وبالعودة إلى سكريبال، يتابع فيلشتينسكي "يبدو أن سكريبال كان في خطر منذ أول يوم لإقامته في بريطانيا من دون أن يدرك ذلك، إذ إنه لم يسبق المساس بأي عميل مستبدل". وسكريبال (66 سنة) هو عقيد سابق في الاستخبارات الخارجية الروسية، وصدر بحقه حكم بالسجن المشدد لمدة 13 سنة لإدانته بالخيانة العظمى لتسليمه بيانات عدد من العملاء الروس إلى الاستخبارات البريطانية، إلى أن تم استبداله، وحصل على اللجوء في بريطانيا في 2010 ضمن صفقة لإعادة جواسيس روس تم ضبطهم في الولايات المتحدة. ومن بين العوامل التي ساعدت روسيا في اكتشاف أعمال سكريبال، اتباعه نمط حياة اتسم برفاهية لا تتناسب مع دخل ضابط متقاعد. ويرجع فيلشتينسكي دوافع موسكو، في حال كانت تقف وراء تسميم سكريبال، إلى إصدار رسالة لكل من يفكر بالانشقاق. ويقول "هذه من القواعد الثابتة في الأجهزة السرية الروسية، وتعود إلى عهد كي جي بي وقبله إن كي في دي في عهد جوزيف ستالين. وتقتضي القاعدة الحازمة بتصفية الخائن عند أول فرصة. كان جميعهم يدركون أنه محكوم عليهم بالموت".
ومنذ تسميم سكريبال، وابنته يوليا، في مدينة سالزبري البريطانية مطلع مارس/آذار الحالي بغاز أعصاب من نوع "إيه-234" (نوفيتشوك)، وجهت بريطانيا اتهامات صريحة إلى روسيا بالوقوف وراء الواقعة، بينما نفت موسكو ذلك بشدة. وعلى أثر الواقعة، قررت لندن طرد 23 دبلوماسياً روسياً، لتسارع موسكو بالرد بالمثل، وإعلان 23 دبلوماسياً بريطانياً شخصيات غير مرغوب فيها على أراضيها، بالإضافة إلى وقف نشاط المجلس البريطاني وسحب ترخيص افتتاح القنصلية البريطانية في سانت بطرسبرغ. ولوح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في طوكيو، أمس الأربعاء، بـ"الرد على الإجراءات المعادية لروسيا" التي اتخذتها بريطانيا حول قضية تسميم سكريبال. وقال لافروف، في أعقاب اجتماعه مع نظيره الياباني، تارو كونو، "إذا استمرت الحكومة البريطانية باتخاذ إجراءات معادية لروسيا، فسنرد انطلاقاً من مبدأ المعاملة بالمثل"، وذلك بعد أن قال متحدث باسم رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، إن لندن "تسعى فعلياً" لاتخاذ إجراءات أخرى. وحث لافروف لندن على "الرد بهدوء" على الهجوم الذي استهدف سكريبال وابنته. وشدد على أن "روسيا تصر على التعاون مع بريطانيا في قضية سكريبال وفقاً لأحكام منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وتأمل أن تستجيب لندن". وفي إطار الرد البريطاني، أعلنت السفارة البريطانية في موسكو، أمس، أن السفير البريطاني، لوري بريستو، لن يحضر اجتماعاً دعت إليه وزارة الخارجية الروسية لشرح وجهة نظر موسكو حول تسميم سكريبال، وهو ما سارع الكرملين إلى انتقاده، معتبراً أن "رفض السفير البريطاني حضور اجتماع دبلوماسي حول قضية سكريبال يدل على عدم رغبته في سماع الأجوبة". وقال المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، "هذا دليل جديد واضح على وضع عبثي يتم فيه طرح أسئلة لكن من دون وجود أي رغبة في الاستماع إلى الأجوبة". وقالت المتحدثة باسم السفارة البريطانية في موسكو، زينات خانش، إن "السفير لن يحضر الاجتماع"، مضيفة إن السفارة تفكر في إرسال مسؤول إلى اجتماع. وكانت السلطات الروسية دعت السفراء الأجانب المعتمدين على أراضيها إلى "لقاء مع المسؤولين والخبراء في الدائرة المكلفة مسائل الحد من انتشار وضبط الأسلحة". كما سيغيب عن الاجتماع رئيس وفد الاتحاد الأوروبي في روسيا، الموجود حالياً في الخارج، وسيتمثل بنائبه سفين أولوف كارلسون، كما أعلنت متحدثة باسمه.
وبعيد إعادة انتخابه لولاية رابعة مدتها ست سنوات، لم يتأخر بوتين في وصف الاتهامات الموجهة إلى موسكو بأنها "هراء"، مستبعداً أن تكون روسيا أقدمت على مثل هذا العمل عشية الانتخابات الرئاسية وبطولة العالم لكرة القدم، مؤكداً إتلاف جميع الأسلحة الكيميائية الروسية. ورأى وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، أول من أمس، أن الضلوع المفترض لموسكو في التسميم يظهر أن روسيا "اختارت أن تكون منافساً استراتيجياً". وقال ماتيس، رداً على سؤال عما إذا كان يرى إمكانية لتحسين العلاقات مع روسيا في أعقاب إعادة انتخاب بوتين لولاية جديدة، "لطالما كنا مستعدين للتعاون مع روسيا حيث كان ذلك ممكناً". وأضاف "للأسف اختاروا أن يكونوا منافسين استراتيجيين أخيراً بشأن ما حصل في المملكة المتحدة".
وفور حادثة تسميم سكريبال، ركز الإعلام الرسمي الروسي على السرعة التي خرجت بها بريطانيا بالنتائج من دون استكمال التحقيقات. وتم تخصيص حلقات كاملة من البرامج لمناقشة هذه القضية، ليدافع المشاركون فيها عن الرواية الرسمية. ومع ذلك، شككت الصحافة الليبرالية الروسية في رواية الكرملين. وفي مقال بعنوان "رسالة إلى الخائن المستقبلي. لماذا كان الأثر الروسي في قضية سكريبال ضرورياً"؟ اعتبرت صحيفة "ريبابليك" أن منفذي عملية التسميم تعمدوا استخدام مادة سامة تقود آثارها إلى روسيا، معتبرة أن ذلك كان "تذكيراً بتداعيات الخيانة المحتملة، وليس انتقاماً وتصفية جاسوس خطير". ورأى المعارض الروسي المستبعد من السباق إلى الكرملين، أليكسي نافالني، أن اغتيال سكريبال ساعد السلطات الروسية في "تحويل الأجندة السياسية إلى مناقشة الأعداء في الغرب" بدلاً من القضايا الداخلية، مقراً، في الوقت ذاته، بعدم وجود أدلة قاطعة على ضلوع روسيا في الواقعة.