يضع دخول حكومة الوفاق الوطني الليبية برئاسة فائز السراج، إلى العاصمة طرابلس، منذ أول من أمس الأربعاء، الأوضاع في ليبيا أم سيناريوهات متعددة، مع سعي السراج إلى فرض وجود حكومته كسلطة أمر واقع على الأرض، عبر تسلّم المقرات الرسمية في العاصمة، الأمر الذي لا يزال يلقى رفضاً من حكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل، ما ينذر بعودة الاشتباكات التي ترافقت مع دخول الحكومة إلى طرابلس، قبل أن يسود هدوء حذر أمس الخميس. ولم يتأخر التدخّل الأوروبي دعماً للسراج، إذ فرض الاتحاد الأوروبي أمس عقوبات على أبرز ثلاثة مسؤولين ليبيين في طبرق وطرابلس بذريهة "عرقلتهم" عمل حكومة السراج، وفق ما أفاد به مصدران أوروبيان لوكالة "فرانس برس". وبدا واضحاً من الأسماء المستهدفة، والتي ضمت رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح، والذي التزم الصمت في الأيام الماضية، ورئيس المؤتمر الوطني العام نوري ابو سهمين ورئيس حكومة طرابلس خليفة الغويل، أن الاتحاد الأوروبي قرر التصعيد ضد المعترضين على حكومة السراج. وأوضح أحد المصدرين لـ"فرانس برس" أن العقوبات تقضي بـ"حظر السفر إلى الاتحاد الاوروبي وتجميد أصول داخل الاتحاد، وهو أمر ممكن لأنه يبدو أن (من شملتهم العقوبات) لديهم أصول في مالطا"، على حد قوله.
وأعلن السراج، أمس الخميس، أن حكومته "في الخطوات الأخيرة لاستلام مقرات الوزارات، والبداية بوزارة الخارجية"، مشيراً في تصريح عبر حسابه الرسمي على موقع "فيسبوك"، إلى عقد اجتماع مع محافظ مصرف ليبيا المركزي للبدء في حل بعض المشاكل وتوفير السيولة النقدية للمصارف. كما أعلنت لجنة الترتيبات الأمنية، أمس، أنها استلمت مبنى رئاسة الوزراء في طريق السكة طرابلس. لكن وزيراً في حكومة الغويل، نفى تسليم أي من مقرات الوزارات والهيئات إلى حكومة السراج، مؤكداً في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "الجيش الليبي ما زال تحت إمرة الغويل الذي يمسك بمنصب وزير الدفاع إلى جانب مهام عمله كرئيس وزراء". بموازاة ذلك، انطلقت اللقاءات السرية والمشاورات السياسية، بعيداً عن أنظار العاصمة، بهدف البحث عن صيغ تنقذ العاصمة ومن ورائها ليبيا، من سيناريو المواجهة المسلحة، بينما يفاوض بعضهم على مصيرهم الشخصي. وبعد التوتر المحدود الذي تزامن مع وصول السراج إلى القاعدة البحرية في طرابلس وعمليات إطلاق نار متقطعة من أسلحة ثقيلة وانتشار القوات الأمنية التابعة لحكومة الوفاق وإغلاق عدد من الشوارع الرئيسية وسط العاصمة، توقفت الاشتباكات داخل طرابلس، كما أعلن عميد بلدية طرابلس، عبدالرؤوف بيت المال، فيما تم تعليق الدراسة والعمل في طرابلس، أمس الخميس، بسبب مخاوف أمنية. من جهته، أكد رئيس لجنة الترتيبات الأمنية، العقيد عبدالرحمن الطويل، في تصريح صحافي، أن الوضع في العاصمة طرابلس جيد ومستقر وإن المناوشات التي راح ضحيتها أحد أفراد كتيبة النواصي لم تدم طويلاً، مؤكداً أن قوات الجيش والشرطة وبعض الكتائب المنتظمة هي من تقوم بحماية حكومة الوفاق، على حد قوله.
وتأتي هذه التطورات بعدما كانت قوات تابعة لحكومة الوفاق قد أغلقت قناة "النبأ" القريبة من حكومة الغويل، وجردتها بالتالي من منصة إعلامية توصل صوتها إلى الليبيين، كما أقدمت مجموعة أخرى على إبعاد المحتجين على حكومة الوفاق من وسط العاصمة، بالإضافة إلى أن حكومة السراج دخلت العاصمة بحراً بمساندة قوات بحرية، وسيطرت على القاعدة البحرية وما جاورها في المنطقة، من دون أيّ مواجهة مسلحة. ويعكس كل هذا، من وجهة نظر البعض، قصوراً في سيطرة حكومة الغويل على العاصمة، وعدم تمكنها من كل الخيوط السياسية والعسكرية في العاصمة. غير أنه يطرح في الوقت نفسه أسئلة عن تحركات السراج في الفترة المقبلة، وشكل تعامله مع الوضع السياسي والأمني مع حكومة الغويل أولاً، ومع باقي ليبيا ثانياً. فحكومة الغويل تبدو في مأزق سياسي واضح، فإما القبول بالأمر الواقع الجديد، وهو ما يعني إبرام صفقة مع السراج لتفادي التهديدات الدولية، وإما المواجهة كما تم إعلانه من قبل. وبدا أن الغويل لم يعد يجد مساندة من كل "أصدقاء الأمس"، إذ يساند رئيس حزب "العدالة والبناء" محمد الصوان، حكومة السراج. كما أن عضو الأمانة العامة بالاتحاد العالمي للعلماء المسلمين علي الصلابي، دعا المجلس الرئاسي للحوار الجاد مع معارضيه، مشدّداً على أهمية هذا الحوار الذي يهدف إلى حقن الدماء. من جهتها، أعلنت قوات "فجر ليبيا" أنها تنتظر رأي رئيس المجلس الأعلى للإفتاء، المفتي صادق الغرياني، الذي دعا حزب "العدالة والبناء" وجماعة "الإخوان المسلمين" ومشايخهم "لأن يرجعوا إلى رشدهم وأن لا يدعموا حكومة ظالمة مسلطة، وأن يطالبوا بتضمين الملاحظات الخمس في المسوَّدة (الاتفاق السياسي) من أجل القبول بالتوافق على الحكومة". كما طالب الغرياني المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بالخروج من العاصمة طرابلس والعودة من حيث أتى. لكن حزب "العدالة والبناء" رد على الغرياني، مطالباً إياه بمراجعة موقفه بشأن هجومه على موقف الحزب الداعم لحكومة الوفاق.
في المقابل، يدرك السراج أن حكومة الغويل، على محدودية ردّها في اليومين الأخيرين، لا تزال تمتلك قوى تساندها، ويدرك، أيضاً، أن هؤلاء غير مطمئنين على مستقبلهم الشخصي والسياسي، وهو ما يفرض عليه البحث سريعاً عن حلول لذلك، تجنّبه المواجهة وإراقة الدماء، وستجعله يربح وقتاً مهماً للغاية في جدول أعماله واستحقاقاته الصعبة. ويلقى السراج في هذا الاتجاه عوناً مهماً من المبعوث الأممي، مارتن كوبلر، الذي خرج عن صمته، خلال الأيام التي سبقت دخول حكومة الوفاق إلى طرابلس، والتقى بعض أعضاء لجنة الحوار وممثلين عن تحالف القوى الوطنية، في إسطنبول، أبرزهم عبدالحكيم بلحاج وجمال عاشور وعبدالرحمن الفقيه. وجرت مناقشة مقترحات تهدف إلى إنهاء الانقسام وإدخال بعض التعديلات على الاتفاق السياسيّ. السراج، المركّز حالياً على طرابلس، يعرف أنه يواجه مشكلة في شرق البلاد أيضاً، إذ كان رئيس حكومة طبرق، عبدالله الثني، قد عبّر عن رفضه حكومة السراج، ليلة وصول الأخير إلى طرابلس. كما يعرف السراج أنه يواجه مشكلة أخرى مع برلمان طبرق الذي لم يصادق على حكومته رسمياً، حتى الآن، بالإضافة إلى ملف قائد الجيش التابع لهذا البرلمان خليف حفتر، ومأزق إقصائه من المشهد بحسب الاتفاق السياسي. كما يلف الغموض موقف الزنتان و مصراتة ترقب لتحولات الوضع في طرابلس.