هذا ما أفاد به تقرير لجريدة واشنطن بوست تحت عنوان "إفراغ السجون السورية المزدحمة بالقتل الجماعي". ويقول التقرير، نقلًا عن شهادات لأكثر من عشرين سوريًا ممن تم إطلاق سراحهم مؤخرًا من سجن صيدنايا العسكري في دمشق، إن هناك حملة حكومية لتطهير السجن من المعتقلين السياسيين، إذ يُنقل السجناء من مختلف السجون والمعتقلات في سورية إلى سجن صيدنايا ليلاقوا هناك مصيرهم في جلسات الإعدام قبل الفجر.
وتضيف الصحيفة أن عدد نزلاء سجن صيدنايا، الذي كان في يوم من الأيام يتراوح بين 10000 إلى 20000 سجين، تضاءل إلى حد كبير بسبب عمليات الإعدام التي لا تتوقف، وكان قسم واحد على الأقل في السجن خاوياً بالكامل تقريباً، وفقاً لشهادات المعتقلين.
وقد حُكم على بعض السجناء السابقين أنفسهم بالإعدام، ولم يتلافوا هذا المصير، إلا بعد أن دفع أقاربهم عشرات الآلاف من الدولارات لتأمين حريتهم. ونقل آخرون المحادثات بين الحراس في ما يتعلق بنقل السجناء حتى وفاتهم. وتحدث الرجال جميعًا بشرط عدم الكشف عن أسمائهم بالكامل خوفًا على سلامة عائلاتهم.
الصحيفة الأميركية أجرت مقابلات مع 27 معتقلاً سابقًا تم إطلاق سراحهم مؤخرًا من سجن صيدنايا، يعيش معظمهم الآن في تركيا، وأيضاً في سورية ولبنان والعراق وألمانيا. وقد تم التعرف عليهم من قبل سجناء سابقين آخرين ومراقبين حقوقيين، وتمت مقابلتهم في المدن التركية مثل إسطنبول وغازي عنتاب وأنطاكيا، وكذلك عبر الهاتف.
ووفقاً لمعتقلين اثنين سابقين مرا على محكمة دمشق الميدانية الواقعة داخل مقر الشرطة العسكرية بالعاصمة، فقد تسارعت معدلات أحكام الإعدام خلال العام الماضي. وقد مثل هذان الرجلان مرتين أمام قاضي محكمة عسكرية ميدانية. مرة في وقت سابق من الأزمة السورية ومرة واحدة هذا العام.
يقول أحدهما: "لم يكن هناك مجال للتساهل في زيارتي الثانية... لقد حكم على جميع الأشخاص تقريباً في تلك الغرفة بالموت. كانوا يقرأون الأحكام بصوت عال".
وقال معتقلون سابقون إن العديد من السجناء، حتى قبل أن يصلوا إلى المشنقة، يموتون بسبب سوء التغذية أو الإهمال الطبي أو الاعتداء الجسدي، وغالباً ما يحدث ذلك بعد حدوث انهيار نفسي.
ويصف سجين سابق كيف أدخل الحراس أنبوبًا معدنيًا أسفل حلق زميل له في الزنزانة من بلدة داريا في دمشق: "قاموا بوضعه على الحائط ثم تركوه ليموت". وقال أبو حسين (30 عاماً)، وهو ميكانيكي من محافظة حمص: "ظل جسده ملقى بيننا طوال الليل". ووصف آخر كيف أُجبر السجناء في زنزانته على ركل سجين من محافظة درعا الجنوبية حتى الموت.
لم يستجب النظام السوري لطلبات "واشنطن بوست" التعليق على هذا المقال. ولم تعترف الحكومة أبداً بإعدام السجناء أو الإفراج عن أرقام من تم إعدامهم.
وتظهر صور الأقمار الصناعية لأراضي سجن صيدنايا، في مارس/ آذار، تراكم العشرات من الأجسام المظلمة التي يقول الخبراء إنها تشبه أجساد البشر. تم الحصول على الصور من قبل "واشنطن بوست" التي طلبت من خبراء الطب الشرعي مراجعتها.
ويقول إسحاق بيكر، مدير تحليل الصور في برنامج إشارات المبادرة الإنسانية في هارفارد: "تظهر في الصور، بين 1 مارس و4 مارس، أجسام مظلمة تشبه بعضها البعض، طولها من خمسة إلى ستة أقدام تقريبًا. ووفق التحليل والبيانات المتاحة فإنها تتسق مع روايات شهود العيان عن عمليات الإعدام الجماعية".
ويصف سجينان سابقان كانا محتجزين في زنزانات أقرب إلى غرفة الحراسة في جناح السجن حوارات بين السجانين بشأن عمليات إعدام وقعت في أوائل مارس/ آذار. وقال أحدهم "كانوا يتحدثون عن مجموعة من جثث السجناء التي نُقلت إلى ساحة السجن".
وتظهر صور الأقمار الصناعية الأخرى للأراضي العسكرية قرب دمشق، التي حددتها منظمة العفو الدولية في السابق كموقع للقبور الجماعية، زيادة في عدد حفر الدفن وشواهد القبور في مقبرة واحدة على الأقل هناك منذ بداية العام. وقال المنشقون الذين عملوا في السجون العسكرية إن هذه المنطقة، الواقعة جنوب العاصمة، هي المكان المحتمل للدفن الجماعي لسجناء صيدنايا.
وتقع المقبرة على الطريق المتّجه من دمشق جنوبًا، حيث ظهرت العشرات من شواهد القبور الجديدة منذ فصل الشتاء في منطقة تُدعى البحدلية، وكل قبر يُعتقد أنه يحتوي على أكثر من جثة واحدة.
ويقول المحللون إنه لم تحدث وفيات نتيجة المعارك في المحافظة خلال هذه الفترة الزمنية، ما يدعو للاستنتاج إلى أن المقابر ربما تحتوي على سجناء متوفين.
وبعد سبع سنوات من الحرب، لا يزال هناك أكثر من 100 ألف معتقل سوري في عداد المفقودين. ووفقاً للأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان، ربما يكون الآلاف منهم، إن لم يكن عشرات الآلاف، قد ماتوا.
وعلى الرغم من أن جميع أطراف النزاع قد اعتقلت واختطفت وقتلت أسرى، فإن الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقدّر أن ما يصل إلى 90 بالمائة منها قد تم عبر شبكة من السجون التابعة للنظام السوري، حيث يتم التعذيب والموت وأشكال أخرى من الإهمال القاتل والمنهجي. وفي إحدى المراحل، احتجزت صيدنايا وحدها ما يصل إلى 20000 سجين، وفقًا لمنظمة العفو الدولية.
ويقول السجناء السابقون إن الحراس فرضوا شبه صمت تام بين السجناء الذين ينامون تحت أغطية موبوءة بالعث والقراد على أرضيات حجرية تلتصق بها سوائل جسدية. "عندما تكون في صيدنايا، لا يمكنك التفكير في أي شيء؛ لا يمكنك حتى التحدث إلى نفسك. الضرب تعذيب. والصمت تعذيب"، يقول محمد (28 عامًا) واصفًا حال زملائه في الزنزانة الذين تركهم خلفه.
ويضيف محمد: "بعضهم كانت معنوياتهم مكسورة تماماً، وأصبح البعض الآخر مهووسًا وفي حالة جنون. الموت سيكون رحمة لهم. كلهم ينتظرونه".
وعلى الرغم من تعدد الأيام التي يتم فيها الإعدام، فإن سجناء صيدنايا السابقين يقولون إن الحراس يتجولون في الغالب في زنزاناتهم بعد ظهر يوم الثلاثاء، منادين أسماءهم من القوائم.
"كنت أعلم أنهم كانوا قادمين عندما طرقوا الباب المعدني وبدؤوا يصرخون ويطلبون منا الالتفاف"؛ يقول أحد السجناء السابقين، مردفًا: "كان الجميع يتدافعون على الجدار ويقفون بأقصى ما يستطيعون".
وفي حالة محمد، هذا هو بالضبط ما فعلوه. مع وضع قميص فوق رأسه، خرج الطالب السابق من زنزانته واقتيد إلى صف الموت في الطابق السفلي، حيث تعرض للضرب وهو يمشي متعثرًا إلى الطابق السفلي، وهناك أفاق محاطًا بصراخ الآخرين.
تم دفعه هو وغيره من السجناء إلى زنزانة ضيقة وجردوا من ملابسهم قبل أن يغادرهم الحراس، وأغلقوا الباب المعدني خلفهم. تم الاحتفاظ بالسجناء هناك لمدة أسبوع، ليجري تكديس المزيد من السجناء في زنزانة مجاورة. وكان من بينهم حسن (29 عاماً)، وهو مزارع نُقل إلى سجن صيدنايا من سجن مدني في مدينة السويداء الجنوبية. جلس الرجال طوال الليل ينتظرون الموت، وتحدثوا همسًا، وتبادلوا قصص حياتهم.
يقول حسن: "كان الظلام حالكًا هناك، لكن ما استطعت رؤيته من وجوههم هو الرعب المحض. في النهاية توقف الجميع عن الكلام".
ومع ذلك، عندما جاء الحراس ليأخذوا السجناء إلى حتفهم لم ينادوا على اسم محمد ولا حسن. علموا فيما بعد أن عائلاتهم دفعت عشرات الآلاف من الدولارات إلى سمسار مرتبط بالحكومة، وهو جزء من شبكة ظهرت خلال الحرب لتزويد العائلات بأخبار عن أقارب محتجزين، وهي تساهم بعض الأحيان في إطلاق سراحهم مقابل مبالغ من المال.
وتأتي الزيادة المفاجئة في أحكام الإعدام في الوقت الذي تجري فيه مناقشة مصير المحتجزين السوريين أثناء الحرب في محادثات السلام في العاصمة الكازاخستانية أستانة، حيث يحاول المسؤولون من روسيا وتركيا وإيران التفاوض من أجل إنهاء النزاع.
في غضون ذلك، كان النظام السوري يصدر إشعارات وفاة للسجناء السياسيين بمعدل لم يسبق له مثيل. وبدأت هذه الممارسة تتسارع في يناير/كانون الثاني الماضي، ويبدو أنها تؤكد في العديد من الحالات أن المحتجزين قد ماتوا منذ بداية الصراع.
وفي تقرير صدر الشهر الماضي، قالت هيئة الأمم المتحدة إن الإفراج الجماعي عن إخطارات الإعدام يعد بمثابة اعتراف من النظام بأنه مسؤول عن وفاة سجناء نفى احتجازهم لسنوات.
وفي المقابلات مع الصحيفة الأميركية، ألقى السجناء السابقون الضوء على عمل المحكمة الميدانية العسكرية، حيث يظهر المتهمون دون محامين، وغالباً ما تكون أوراق الاتهام هي نتيجة التعذيب. ويصل المعتقلون مكبلين ومعصوبي الأعين. ونادرًا ما يستمر استجوابهم لأكثر من ثلاث دقائق.
وفي بعض الحالات، ارتكزت عمليات الإعدام الأخيرة في سجن صيدنايا على أحكام صدرت قبل سنوات. ما تغير، كما يقول المعتقلون السابقون، هو التسريع في إصدار أحكام جديدة.
وحالما يتم شنق السجناء، عادة ما يتم نقل الجثث مباشرة من غرفة الإعدام إلى شاحنة أو سيارة تنقلها للتسجيل في مستشفى عسكري، قبل دفنها في المقابر الجماعية، وفقًا لمنظمة العفو الدولية.
كان محمد وحسن من بين أولئك الذين نجوا من هذا المصير. بعد سنوات من التعذيب والإهمال الشديد، تركت لديهم ندوباً ومشكلات صحية حادة، وقد جاؤوا عبر الحدود إلى تركيا في وقت سابق من هذا العام.
بعد عبور حسن من الأراضي السورية إلى المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة بالقرب من الحدود التركية، قام المهربون الذين يديرون مجموعته بتوجيهه بالخطأ إلى حقل ألغام، حيث انفجر لغم في ساقه. يقول: "ذكريات لا يمكن نسيانها بسهولة. معظم زملائي في الزنزانة ماتوا الآن. لكني أظل أفكر في الأشخاص الذين ما زالوا هناك".