على غرار كل سنة في مثل هذا اليوم، يتجمّع مواطنون جزائريون وفرنسيون، على جسر سان ميشال، لإحياء الذكرى، وانتظار بزوغ فجر الحقيقة، التي لم تظهر كاملة، حتى الآن. ولم تظهر حقيقة ما جرى بشكل صريح ورسمي معلن، على الرغم من أن التاريخ شهد، في ذلك اليوم، ما وصفه المؤرخان البريطانيان، جيم هاوس ونيل ماك ماستر، بـ"أعنف قمع من طرف دولة معاصرة ضد تظاهرة شوارع في أوروبا الغربية".
وككل عام تحضر جمعية "باسم الذاكرة"، المقرّبة من الحزب الاشتراكي، هذا التجمّع ويلقي بعض مسؤوليها كلمات بالمناسبة. لكن بالنسبة للباحث يوسف بوسوماح فإن "الأمر يتجاوز مسألة الذاكرة بكثير". وفقاً بوسوماح، العضو المؤسّس لحزب "أهالي الجمهورية" الفرنسي، فإنه "لا يمكن أن تحدث جريمة يُقتَل فيها 400 شخص من دون مجرمين، ولا أن يكون مجرمون من دون عقوبات، بينما الحقيقة تقول إن المسؤول هي الشرطة الباريسية وإنّ الأوامر صدرت من والي الأمن موريس بابون، الذي كان تحت إمرة ميشال دوبريه، الذي كان بدوره يعمل تحت قيادة الجنرال شارل ديغول. بالتالي فإن ديغول مسؤول، بشكل مباشر، عن المجزرة".
وأوضح بوسوماح أنه "في أكتوبر 1961، بدأت مفاوضات إيفيان بين فرنسا وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، في ظلّ معارضة شديدة من رئيس الحكومة ميشال دوبريه، مع إشراف ديغول على المفاوضات، مانحاً النصح للمفاوضين الفرنسيين". ولفت إلى أن "دوبريه أعطى أوامره لبابون بممارسة القمع، على أمل أن تكون ردود فعل جبهة التحرير الوطني عنيفة، وتقوم بعمليات عسكرية في العاصمة الفرنسية. ما كان سيفشل المفاوضات". وتابع قائلاً إن "ديغول، الذي كان يدافع عن المفاوضات، كان يأمل، من خلال سحق التظاهرة، في التفاوض مع خصم ضعيف، لأن هدفه الرئيسي كان كسر البنية التحتية لجبهة التحرير الوطني الجزائري".
وأضاف بوسوماح أن "الجميع يريد تشكيل لجنة تحقيق، احتراماً للعائلات واحتراماً لكرامتنا واحتراماً لكل شهدائنا، وللشعب الجزائري ولكل شعوب العالم. نحن أمام جريمة ضد الإنسانية، وهي جريمة لا تموت بالتقادم". واعتبر أن "تفاهم جبهة التحرير مع فرنسا، في تلك الفترة، مع ما شهده هذا التفاهم من إغفال لما وقع، باسم عدم متابعة أي طرف لجرائم وانتهاكات الطرف الآخر، لا يمنع أن يقوم البرلمان الجزائري الآن بفتح الملف والمطالبة بالحقيقة ثم المحاسبة".
وعقّب معلقاً على دور جمعية "باسْم الذاكرة"، التي تحظى بمباركة من قبل الحزب الاشتراكي الفرنسي، بأن هدفها هو "عدم تحميل أي مسؤولية للحزب الاشتراكي الفرنسي تجاه ما حدث"، وأضاف: "نحن لا نريد أن نستذكر، لسنا في حالة طقوسية ولسنا هنا من أجل ذرف الدموع وإلقاء بعض الزهور في نهر السين، بل نريد الحصول على الحقيقة كاملة".
أما عن موقف المعارضة اليسارية، الاشتراكية والشيوعية، من الجريمة، قال بوسوماح "حصلت الجريمة في وضح النهار على الرغم من حالة الصمت العامة التي يحاول الكثيرون إسباغها على الأمر. ذلك لأن بعض الفرنسيين كانوا في طوابير أمام دور السينما، وتعاونوا مع الشرطة الفرنسية، وكشفوا لها عن مخابئ بعض المتظاهرين الجزائريين، بل وبلغ الأمر أن نزل بعض الفرنسيين من سياراتهم لمطاردة المتظاهرين".
وأشار بوسوماح إلى أن "الحزب الشيوعي أغلق مقرّه في وجه المتظاهرين، الذين كانوا يريدون الاحتماء من بطش الشرطة، بينما طرح الحزب الاشتراكي في اليوم التالي للجريمة، سؤالاً على لسان النائب فرانسوا ميتران في البرلمان الفرنسي، لم يكن الهدف منه إلى تجريم ما حدث، بل التشكيك في قدرة السلطات على حفظ الأمن". ورأى أنه "كثيراً ما نسمع تبريرات تقول إن الأمر عبارة عن حرب، ولكن هذا الجواب يستدعي ملاحظتين اثنتين. أولاً، لا تُخاض الحرب ضد مدنيين، والشيء الثاني، الذي لا يعرفه الكثيرون، وهو أن هؤلاء الذين تم اغتيالهم لم يكونوا جزائريين بل كانوا فرنسيين، منذ سنة 1958، حسب قرار الدستور الجديد".
وعلى الرغم من إحجام المعارضة الفرنسية في حينه على عدم إدانة الجريمة، إلا أن بوسوماح أقرّ بوجوب الاعتراف "بأنه نظمت بعد هذه المجزرة ثلاث تظاهرات صغيرة تعرضت للقمع، أشرف عليها مفكرون يساريون، كجان بول سارتر وغيره من المفكرين في بلاس كليشيه وموبير موتيالتي". وما يزيد من دلائل تقاعس اليسار وتخاذله إزاء المجزرة، هو "ردة فعله الكبيرة بعد مجزرة ميترو شارون، في 8 فبراير/شباط 1962، التي قمعت فيها الشرطة، تحت أوامر موريس بابون، تظاهرة فرنسية ضخمة مؤيدة للثورة الجزائرية، فسقط 9 قتلى فرنسيين، وقد نظّم اليسار، بعدها، تظاهرات ضخمة تندّد بالقمع البوليسي".
بدوره، أوضح أحمد مرابط، الذي حضر بعض هذه التظاهرات، أنه "إلى جانب العديد من زملائه لا يريدون الاكتفاء بلوحة تذكارية عما وقع". وأضاف "نريد أن نعرف عدد القتلى الجزائريين وأسماءهم، كما فعلت الدولة الفرنسية مع قتلاها، عبر تاريخها".
حتى أن الكتاب المدرسي الفرنسي، "يتحدث في كلمات قليلة عن 17 أكتوبر، باعتبارها ذكرى أو ذاكرة، بينما هي نقطة من تاريخ فرنسا"، وفقاً لإحدى المعلمات الفرنسيات من أصل جزائري. وأشارت إلى أنه عندما "نتحدث عن الذاكرة فثمة ذاكرات أخرى، ذاكرة الجزائريين وذاكرة الحركيين وذاكرة الجنود الفرنسيين في الجزائر وذاكرة المواطنين الفرنسيين، وهو ما يعني نوعاً من صراع ذاكرات، وبالتالي فلن تُعرَف الحقيقة. وهنا مَكمَن الخطر". وأضافت "نحن لسنا أمام ذاكرة بل أمام التاريخ، أمام جزء من تاريخ هذا البلد". أما عن الحقيقة، فيجب الانتظار حتى عام 2022، حتى يكونَ بالإمكان الاطّلاع على أرشيف تلك المرحلة. أو انتظار لفتة، قد لا تأتي، من طرف الرئيس الاشتراكي، "صديق الجزائر"، فرانسوا هولاند.