يجمع الخبراء في تونس والحكومات المتعاقبة والأحزاب أيضاً على صعوبة الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. وهذه الحالة أدت إلى ضعف موارد الدولة وتراجعها بشكل كبير أمام تزايد الدين الخارجي. لكن الأخطر هو أن المؤشرات المستقبلية لا تدعو إلى التفاؤل بإمكانية تجاوز المرحلة ذاتياً وبإمكانات محلية بسبب تراجع الإنتاج في أهم القطاعات الحساسة وانخفاض قيمة الدينار، العملة المحلية في تونس. وأتى مسار التراجع على شكل تراكمات على امتداد سنوات، ما أدى إلى تفاقم الأزمة وتحوّلها إلى قنبلة اجتماعية موقوتة، فيما عجزت كل الحكومات عن الخروج من دائرة المؤشرات الحمراء. وأمام هذا الوضع، تواترت دعوات الحكومات إلى القيام بـ"إجراءات موجعة" للحد من تدني مداخيل الدولة وعجز مختلف الصناديق عن الإيفاء بالتزاماتها. وأطلق وزير المالية المستقيل، فاضل عبد الكافي، ناقوس الخطر. وأعلن أمام البرلمان في جلسة منقولة على الهواء، أن الدولة قد تعجز عن سداد رواتب الموظفين إذا استمر الحال على ما هو عليه، ما دفع المراقبين إلى الدعوة لتشكيل "حكومة شجاعة" تكون قادرة على اتخاذ قرارات صعبة لإيقاف هذا النزيف.
وتبدو المعادلة صعبة جداً، إذ يتساءل الجميع كيف يمكن زيادة مداخيل الدولة من خلال رفع الضرائب وعدم المساس بالقدرة الشرائية المتدنية للمواطنين في الوقت نفسه؟ وكيف يمكن إثقال المؤسسات الاقتصادية بضرائب جديدة وتنشيط مناخ الاستثمار في المقابل؟
في هذا الإطار، حذرت "حركة الشعب"، يوم الاثنين الماضي، الحكومة مما سيتضمّنه قانون الموازنة الماليّة لسنة 2018 من إجراءات "ستمس من مستوى عيش الفئات الضّعيفة والمتوسّطة"، محملةً إياها "مسؤوليّة الاحتقان الاجتماعي الذي سينتج عن المصادقة على ميزانية وقانون ماليّة يتناقضان مع طموحات الشّعب ويمسّانه في خبزه اليومي". وشددت الحركة في بيان، "على استعدادها للدّفاع بكل الوسائل المشروعة عن التونسيين ضد الإجراءات اللاشعبيّة التي سيتضمنها قانون الماليّة لسنة 2018".
ولن يكون موقف بقية الأحزاب المعارضة مختلفاً عن "حركة الشعب". فمناقشة الموازنة ستنطلق في غضون أسابيع، وستتواصل إلى آخر السنة، أي أنها ستكون سابقة للانتخابات البلدية في مارس/ آذار المقبل مبدئياً. وهذا يوفر فرصة سانحة لتوجيه كل الانتقادات نحو الحكومة أو ما تسميه المعارضة نظام الحكم والائتلاف القائم. وستكون حكومة الشاهد أمام اختبار سياسي قاسٍ للغاية، وسيكون عليها أن تتسلح بخطاب واضح يقنع التونسيين بأنه لا حل إلا بـ"شدّ الحزام"، ما يتطلب أساساً تضامناً سياسياً حقيقياً بين أحزاب الائتلاف الحاكم، بعيداً عن كل الحسابات، وهو ما لا يتوفر في الوقت الحالي على الأقل.
وبغض النظر عن الأحزاب، يعرف التونسيون أن أمر الموازنات مرتبط دائماً بموقف النقابة الأولى في البلاد، "الاتحاد العام التونسي للشغل"، الذي سبق له أن أسقط حكومات حاولت أن تثقل كاهل التونسيين، ودخل معها في صدامات شعبية يذكرها التاريخ. لكن الوضع مختلف في الوقت الراهن، لأن التقارب بين الشاهد والمنظمة النقابية أمر معلوم للجميع، خصوصاً أنها دعمته في التعديل الوزاري الأخير ورفضت استبعاده.
بيد أن هذا الدعم يبقى مشروطاً دائماً. وترفع المنظمة باستمرار "قائمة الخطوط الحمر التي لا يمكن تجاوزها". فمنذ أيام، عبّر الأمين العام لـ"اتحاد الشغل"، نور الدين الطبوبي، عن ذلك بوضوح، بقوله "نحن مع الحوكمة في المؤسسات (العامة)، لكن سيكون هناك أيضاً آلاف الخطوط الحمراء ضد التفويت في المؤسسات (العامة)، وسنبقى سداً منيعاً ضد كل الذين يخططون لضرب مكتسبات البلاد من صحة وتعليم وشركات (عامة)، وسيكون هناك خط أحمر حول المفاوضات الاجتماعية وتمكين الشغالين من حقهم في تحسين مقدرتهم الشرائية". وذكّر الجميع بأن الاتحاد "يُؤْمِن بالحوار الجدي وليس الحوار العقيم، وأن الاستقرار الاجتماعي لا يمكن أن يحصل في ظل وضع اجتماعي صعب للشعب التونسي وبارتفاع متواصل للأسعار أنهك الموظفين والطبقات الشعبية".
ويرفض الاتحاد تجميد الانتدابات في الوظيفة العامة وفي قطاعي الصحّة والتعليم بالذات. ويرفض على ما يبدو الترفيع في سن التقاعد أيضاً، وهناك خلافات واضحة حول عدد من الملفات الأخرى، من بينها إعادة هيكلة المؤسسات والمنشآت العمومية، والشراكة بين القطاعين العام والخاصّ ومراجعة منظومة الدعم للمواد الأساسية.
وينتظر أيضاً أن تتم الزيادات في عديد المداخيل التي تهم الشركات، والطوابع الجبائية عند تحرير العقود، والدعاوى لدى المحاكم وخدمات الهاتف والإنترنت وحجوزات السفر، وغيرها.
وهذه الإجراءات الضريبية المحتملة قد لا تستهدف في مجملها الطبقات الضعيفة، مع أنه ستكون لها انعكاسات عليها بالضرورة. وستطاول بالأساس الطبقة الوسطى وما فوقها، وهي الطبقات المعروف عنها بتفاعلها وتحريكها للقضايا السياسية، بما يعني أن الثمن السياسي الذي ستدفعه حكومة الشاهد سيكون مرتفعاً.
لكن الشاهد ارتأى قبل تقديم مشروعه للبرلمان، أن يمر بالأحزاب والمنظمات الاجتماعية، وأن يعرض عليها هذه القرارات ويستمع إلى مقترحاتها، وهي بالضرورة متضاربة أحياناً، خصوصاً بين العمال ورجال الأعمال، وكذلك الأحزاب الاجتماعية والليبرالية. فكيف يمكن أن يوفق بينها؟ وهل يذهب إلى البرلمان برصيد سياسي مهم يمكنه من مواجهة المعارضة المستنفرة منذ قانون المصالحة؟
وفي هذا الصدد، تلمح مصادر حزبية تحدثت لـ"العربي الجديد"، إلى أن العملية قد تتحول إلى ما وصفته بـ"مسح الأيدي في هذه الحكومة"، أي تقديمها كبش فداء إزاء هذه الإجراءات الضريبية، بعد وضعها في الواجهة، ثم القيام بتغييرها بعد ذلك، بعد تمرير القرارات الصعبة. لكن الشاهد يدرك ذلك بالضرورة وقد يكون المغامر الذي سينقذ صندوق البلاد من الإفلاس، مع أن ذلك يتطلب رصيداً من الدعم السياسي والشعبي والدولي، بعضه متوفر وأغلبه في حكم المجهول.