وحاولت مصر، على مدار الشهرين الماضيين، تكثيف جهود الوساطة غير المباشرة مع الجانب الإثيوبي للعودة إلى مسار التفاوض، ومعالجة أثر الخطوة، التي لا يعتبرها كثر موفقة، بتوقيع مصر منفردة على الصياغة التي وضعتها وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي لاتفاق قواعد الملء والتشغيل. وخسرت مصر قدرتها على المناورة باتخاذها قرار التوقيع المتفرد، وأصبح عليها أداء كثير من الممارسات لتغيير موقف السودان أولاً، وهو ما تحقق بنسبة كبيرة بعد انتزاع رفض صريح من الخرطوم للبدء في ملء السد من دون اتفاق مسبق، ثم يتطلب منها ذلك الآن بذل مجهودات مضاعفة لإعادة إثيوبيا إلى المفاوضات.
وأثبتت الفترة الماضية أنه لا يمكن لمصر، على المدى المنظور، استخدام حلول أخرى غير سياسية للقضية، حتى مع التلويح الضمني أكثر من مرة باستخدام القوة العسكرية. بل إن إرسال مصر خطاباً لمجلس الأمن، بلهجة لا تخلو من الرجاء لاتخاذ ما يلزم لاستئناف المفاوضات، ووصف الخطر الاستراتيجي الذي قد تشهده المنطقة جراء الممارسات الإثيوبية بأنه "تطور محتمل"، كلها نقاط يستحيل توازيها مع تحرك عسكري مصري سيكون بالتأكيد غير مرغوب من القوى العظمى ولا مرحباً به في المنظومة الأممية. وعلى الرغم من أنّ هذا التحرك مطلب دائم لدى العديد من الدوائر داخل النظام الحاكم وخارجه، إلا أن هناك العديد من العقبات أمام اتخاذ مثل هذا القرار السياسي على ضوء الاعتبارات المحلية والخارجية، خصوصاً أن السيسي ما يزال يرغب في تسويق صورته كـ"رجل سلام"، ويسعى أيضاً لاستغلال رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تحقيق نفس الهدف، لاستمرار الرهان على واشنطن في أداء دور المراقب أو المسهل أو الوسيط، حسب رؤية كل طرف، للتوصل إلى حل نهائي للأزمة.
والمسار الآخر الذي عكس الخطاب فشله يتمثل في الجهود التي زعمت بعض الدول العربية والخليجية الداعمة لمصر بأنها تمارسها لصالحها في الآونة الأخيرة بعد مقاطعة إثيوبيا للاجتماع النهائي للمفاوضات في واشنطن. ولا يوجد سبيل لمعرفة مدى عمق وتأثير تلك الجهود، خصوصاً من دولتين كالإمارات والسعودية، لهما مصالح اقتصادية متعاظمة مع إثيوبيا وبعضها مرتبط بمقاولات وإنشاءات سد النهضة والمشروعات التي ستنشأ من خلاله مستقبلاً.
وترى مصادر حكومية مصرية في وزارة الري، قريبة الصلة من الملف، أن معظم الخبراء الدبلوماسيين والقانونيين الذين استشارتهم المخابرات العامة أخيراً حول التحرك المقبل، أوصوا بعدم إرسال مثل ذلك الخطاب إلى مجلس الأمن من دون أن يكون مرتبطاً بتحرك واضح في إطار شكوى رسمية للجمعية العامة للأمم المتحدة أو دعوى قضائية أو طلب للتحكيم. وجميع هذه الخطوات تقترن بغلق القاهرة تماماً مسار المفاوضات السابقة، بحيث تشعر أديس أبابا بأنها تحت ضغط أكثر جدية. لكن ما حدث هو أن مصر تمسكت بالبناء على نفس الصياغات التي رفضتها إثيوبيا وتريد التفاوض عليها.
وبحسب المصادر، فإن معظم هؤلاء الخبراء لم يحبذوا فتح ساحة جديدة لمعركة دبلوماسية غير مضمونة ستخوضها بالتأكيد إثيوبيا وقد تربحها، كما أنها متفوقة حتى الآن في المساحات محل التنافس في أوروبا والولايات المتحدة، باجتذاب أصوات أكثر تؤمن بحق إثيوبيا في التنمية بين الوزراء والنواب والقادة السياسيين في تلك الدول. وحصل "العربي الجديد" على معلومات إضافية عن المذكرة القانونية التي تم إرفاقها بالخطاب، والذي نشرت ترجمته العربية يوم الجمعة الماضي، تفيد بالتركيز في العديد من بنودها على مخالفة إثيوبيا للقواعد الصريحة المنصوص عليها في اتفاق المبادئ لعام 2015، وتأصيلاً قانونياً لاعتبار ذلك الاتفاق قاعدة قانونية دولية خاصة بالدول الثلاث والمشروع ذاته، وبالتالي يمكن الاحتجاج بذلك أمام محكمة العدل الدولية.
على رأس هذه النصوص المهدرة، المادة الخامسة التي تنص على تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، واحترام المخرجات النهائية للتقرير الختامي للجنة الثلاثية للخبراء حول الدراسات الموصي بها في التقرير النهائي للجنة الخبراء الدولية خلال المراحل المختلفة للمشروع. ويضاف إلى ذلك استخدام الدول الثلاث، بروح التعاون، المخرجات النهائية للدراسات المشتركة الموصي بها في تقرير لجنة الخبراء الدولية والمتفق عليها من جانب اللجنة الثلاثية للخبراء، بغرض الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد. وأوضحت المذكرة المصرية أنه بموجب ذلك النص، فإن الحالة الوحيدة التي يمكن لإثيوبيا معها البدء في ملء السد من دون التنسيق مع مصر والسودان، هي أن يكون أي من البلدين قد تقاعس عن تنفيذ توصيات اللجان أو امتنع عن الانخراط في الاتفاق على القواعد والخطوط الإرشادية، وهو ما لم يحدث. كما ركزت المذكرة المصرية على أن اتفاق المبادئ لا يمكن أن يحل بديلاً للاتفاقات السابقة بشأن مياه النيل، على الرغم من أنه لم يقرر أي جزاء على الطرف الذي يخالف تلك الاتفاقات السابق إبرامها في إطار الإدارة المشتركة لمياه النيل، خاصة اتفاقيتي 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا و1993 بين مصر وإثيوبيا، وبالتالي فيجب أخذه بعين الاعتبار كحالة تنظيمية مؤقتة تطبق فيها قواعد القانون الدولي أيضا على الاتفاقيات السابقة.
ويرى مصدر في وزارة الخارجية المصرية أنه من الممكن البناء على هذه المسألة بطلب فتوى من محكمة العدل الدولية أو هيئة تحكيم، لبيان مدى الحجية القانونية الملزمة لاتفاق المبادئ على جميع الأطراف، بعد تكرار خرقه من قبل الجانب الإثيوبي. ويلفت إلى أنه من المتوقع استناد أديس أبابا في ردها على خطاب القاهرة إلى المادة العاشرة من الاتفاق للإيحاء بأن مصر خالفتها بالإصرار على إدخال الولايات المتحدة كوسيط من دون اتفاق مسبق، وهو أمر مردود عليه بانخراط دولة السد في مفاوضات واشنطن لنحو 3 أشهر قبل انسحابها. وبحسب المصدر، فإن إثيوبيا ما برحت ترسل، عبر الوسطاء العرب والأجانب والسودان، إشارات متضاربة إلى مصر طوال الشهر الماضي، حول استعدادها للعودة إلى التفاوض، تارة بشرط إعادة الصياغات، وتارة أخرى بإبداء استعدادها للتفاوض بوساطة غير أميركية، وتارة أخرى بالإصرار على أن الملء الأول خطة سيادية محلية ولا تخضع للاتفاق المشترك مع دولتي المصب.
وحتى الآن، ترغب مصر - ويفضل السودان - الرجوع إلى مسار واشنطن، باعتبار أن المفاوضات تتطلب وسيطاً أو مسهلاً يمكنه فرض كلمته على الجميع في لحظة معينة، ولا ترى الدولتان غضاضة في مقترح انتقال الملف للخارجية الأميركية بدلاً من وزارة الخزانة كعربون طمأنة للإثيوبيين، وذلك للحصول على ضمانات راسخة لاحترام أديس أبابا لما سيتم التوصل إليه، وعدم انقلابها على الاتفاقات، خصوصاً أنه يمكنها بسهولة الالتفاف عليها بالواقع العملي لإدارتها للسد.
وفي خطابها لمجلس الأمن، كشفت مصر لأول مرة أن إثيوبيا عرضت أن يتم الاتفاق فقط بين الدول الثلاث على قواعد الملء والتشغيل لأول عامين فقط، وهو ما اعترضت عليه القاهرة، ليس فقط لأنه يتجاهل تنظيم فترة الملء كاملة، ويتناقض مع القواعد التي سبق الاتفاق عليها، ولكن أيضاً لأنه يتناقض مع اتفاق المبادئ الذي يؤكد عدم الملء قبل التوصل إلى اتفاق شامل. وتزعم إثيوبيا أن مصر ليس لها الحق في أن تتداخل مع إثيوبيا في كيفية إدارة السد إلا بعد الوصول إلى مستوى التخزين الذي يؤثر فعلياً على حصتها من المياه. علماً أنّ جميع توربينات السد ستكون جاهزة للعمل عند اكتمال تخزين كمية 18.4 مليار متر مكعب، مما سيؤدي إلى تناقص منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوب السدّ العالي سوف يتناقص بشكل كبير، خصوصاً إذا انخفض منسوب الفيضان في العامين المقبلين، ليقل عن مستوى 170 متراً، مما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والري المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء.
وهناك اتفاق فني بين السودان وإثيوبيا على ضرورة إبقاء منسوب المياه في بحيرة سد النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر، لتستمر قدرته على إنتاج الكهرباء، وهو أمر تجادل مصر بأنه غير عادل إذا انخفض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً. وهنا مناط خلاف آخر بين مصر من جهة والسودان وإثيوبيا من جهة ثانية، لأنهما لا يرغبان في الربط بين مؤشرات القياس في سد النهضة والسد العالي، بينما كانت تؤيد الخزانة الأميركية الطلب المصري في هذا الصدد.
وتتحدث إثيوبيا عن سوء استغلال مصر مواردها وحصتها من مياه النيل وانخفاض قدرتها على الترشيد، مشددة على أنها لن تتعرض لخطر داهم كما تقول، وتزعم أن مصر تحمّلها كلفة فشلها في ذلك الملف، على الرغم من حصولها سنوياً على أكثر من 80 مليار متر مكعب، أي بأكثر من الحصة المنصوص عليها في اتفاقية 1959 مع السودان بواقع 30 مليار متر مكعب، الأمر الذي لا تعترف به مصر، وتؤكد أن كفاءة استغلال المياه تصل حالياً إلى أكثر من 85 في المائة.