وباستثناء حركة ميلانشون، النشطة في البرلمان، تعاني كل الأحزاب التي يفترض أنها معارضة لماكرون، من مشاكل داخلية.
فحزب "الجمهوريون"، الذي استطاع رغم تداعيات فضائح مرشحه لرئاسة الجمهورية، فرانسوا فيون، مع القضاء الفرنسي، أن يضمن مائة مقعد برلماني، ثم حافظ على أغلبيته المريحة في مجلس الشيوخ، لا يزال يبحث عن قيادة جديدة، وسط مخاوف من خسارة قاعدته الاجتماعية، في حال انتصار لوران فوكييز، الذي لا يخفي برنامجاً وشعارات لا تختلف عن برنامج حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف.
وحتى الساعة، لم تصدر عن هذا الحزب، القوي بنوابه المائة في البرلمان، وفي مواجهة إصلاحات حكومية، مواقف قوية معارضة، حقاً، ولا ما يوحي، أيضاً، أنه حزب معارض لسياسة ماكرون. كما أن قياديين بارزين فيه، ومنهم رئيس الحزب الأسبق، ورئيس مجلس الشيوخ، فرانسوا كوبي، لا يتوقفون عن الإشادة، من حين لآخر، بالرئيس ماكرون، الذي يرون في مختلف سياساته تطبيقاً لبرنامج اليمين.
من جهته، لا يستطيع حزب الجبهة الوطنية المتطرف، أن يلعب دوراً كبيراً في المعارضة، لأسباب وموانع كثيرة، وعلى رأسها فشله في تشكيل فريق برلماني، كما أنه لم يتجاوز بعد تداعيات هزيمة، مارين لوبان، في الرئاسيات، ولا أداءها السيئ في المناظرة التلفزيونية التي جمعتها مع ماكرون خلال حملة الانتخابات الرئاسية.
كما أن ضلوع قياديين من الحزب اليميني المتطرف في قضايا فساد، والتي أدت إلى تصويت البرلمان الفرنسي، أخيراً، على سحب الحصانة البرلمانية عن لوبان، بطلب من القضاء، زعزع الثقة في الحزب، والذي تأثر أيضاً بانسحاب الرجل الثاني فيه، فرنسوا فيليبو، وتأسيسه كياناً سياسياً جديداً، وكان من نتائجه أن عدداً متزايداً من أعضاء الحزب اليميني لم يعودوا يرون في لوبان مرشحة طبيعية للحزب، كما السابق.
وليس الحزب الاشتراكي الفرنسي بأحسن حالاً من سابقيه، إذ إن نقص عائداته المالية بسبب نقص عدد النواب في البرلمان، تدفعه، بالضرورة بالتخلي عن مقره التاريخي في المقاطعة الباريسية السابعة.
كما أن انسحاب قياديين كبار منه، ومن بينهم مرشحه الرسمي للرئاسيات، بونوا هامون، وتشكيله كياناً سياسياً جديداً، وكذلك مغادرة رئيس الوزراء السابق، مانويل فالس، أيضاً للحزب، إضافة إلى آخرين أغواهم الرئيس ماكرون وأدخلهم في حكومته، وانكفاء آخرين إلى مواقع خلفية، جعل الحزب في وضعية سيئة.
ولا تزال القيادة الجماعية للحزب تبحث عن مخرج لهذا المأزق غير المسبوق، التي أعقبت إقصاء هامون في الرئاسيات وأعقبت أيضاً استقالة الأمين العام للحزب، جان- كريستوف كومباديليس، بعد خسارته مقعده البرلماني، على يد شاب مغمور من أصول مغربية، منير محجوبي.
ومن أجل انتخاب أمين عام جديد وقيادة جديدة، يدفع الرئيس السابق للجمهورية وللحزب فرانسوا هولاند، الذي بدأ ينشط في هذه الأيام، في اتجاه تعيين ستيفان لوفول، وزير الفلاحة والناطق باسم الحكومة الفرنسية السابقة، أميناً عاماً للحزب، في حين يدفع شباب الحزب بوزيرة التربية الوطنية في حكومة هولاند، نجاة فالو بلقاسم، لتحمّل مسؤولية أمانة الحزب، وهو ما لا يستسيغه هولاند ورجالاته. في المقابل، تصر نجاة بلقاسم، التي انهزمت في الانتخابات التشريعية الأخيرة، على أن يتم ترشيحها، مستقبلاً، في دائرة انتخابية مضمونة سلفاً.
وفي ظل هذه الوضعية، خفتت أصوات النواب الاشتراكيين في البرلمان، وانشطر الحزب الاشتراكي بحكم الواقع، إلى ثلاثة أجنحة، البراغماتي، الذي يصوت، غالباً، على مشاريع قوانين الحكومة، حتى لا يُحسب على "فرنسا غير الخاضعة" والجناح المعارض للحكومة، وجناح ثالث بين هذا وذاك، ويمتنع عن التصويت في الغالب.
من جهته، لم يبرز الحزب الشيوعي بقوة، في البرلمان. ويبدو أن أنصار ميلانشون خطفوا منه الأضواء، بعد أن سحبوا منه كثيراً من قاعدته ومناضليه.
ومنذ وصول ماكرون إلى السلطة، وجدت حركة "فرنسا غير الخاضعة" نفسها وحيدة تقريباً في الصفوف الأمامية لمواجهة الرئيس الفرنسي.
وعلى الرغم من المواجهات القوية التي خاضتها الحركة، بفضل نواب شباب نشطين لهم إلمام جيد بملفاتهم، تحت قبة البرلمان، إلا أن تصميم ماكرون على تنفيذ وعوده، مدعوماً بالأغلبية العددية، جعل كل المشاريع تحصل على الإقرار البرلماني.
وإضافة إلى نوع من الخذلان الكبير، الذي لا يُخفي ميلانشون حصوله في البرلمان من طرف شتى أطياف المعارضة، خاصة الاشتراكية، فإنه حصد، أيضاً، نفورَ النقابات العمالية منه. وقررت جميعها، بما فيها المركزية النقابية الكبرى "سي. جي. تي"، عدم الخضوع لإملاءاته، وهو ما عبر عنه قيادي نقابي في هذه النقابة بالقول: "نحن لم نقطع حبل الصرة مع الحزب الشيوعي حتى نقع تحت وصاية حركة سياسية أخرى".
ويتصور كثيرون أن حركة ميلانشون السياسية في وضعية صعبة، ويرتكزون على استطلاع أخير للرأي، أجرته صحيفة "لوفيغارو" اليمينية، يكشف أن شعبيته هوت بنسبة 6 في المائة خلال شهرين، وأن 69 في المائة من الفرنسيين يعتبرونه عنيفاً في مواقفه وخطبه، وأن 58 في المائة يرون أن تصريحاته تثير الصدمة.
ويواجه الواقع الجديد بنجاح المؤتمر الذي عقدته حركته، يومي السبت والأحد، 25 و26 نوفمبر/تشرين الأول، والذي أثبت شعبيته والتفافاً كثيفاً للمناضلين من حوله، نحو 1500 مناضل، تم اختيار 1200 منهم عن طريق الصدفة.
ورغم موقف غالبية الفرنسين منه، كما ورد في استطلاع الرأي الأخير، إلا أن معظم الفرنسيين لا يزالون يعتبرونه أفضلَ مُعارِض للرئيس ماكرون، متفوقاً على لوبان وفوكييز.
وفي هذا المؤتمر الذي نظمته "فرنسا غير الخاضعة"، أكّد ميلانشون، الذي كان يتصوره الكثيرون منهكاً ومنهاراً، خلال أكثر من سنة، بسبب حضور إعلامي وسياسي ضاغط، أن وضعية حركته أفضل مما يعتقد كثيرون. وشدد على أن "مرحلة سيئة تبدأ بالنسبة لرئيس الجمهورية، وتنتهي بالنسبة لي".
وانصب هذا اللقاء على الإعداد للاستحقاقات الانتخابية القادمة في فرنسا، خاصة الانتخابات الأوروبية وتصور خارطة طريقة للفترة القادمة.
وعلى غرار الانتخابات التشريعية، ستذهب حركة ميلانشون وحيدة إلى الانتخابات القادمة.
ويريد ميلانشون، الذي خسر الشارع، لأنه لم يستطع أن يحركه، كما توعد، قبل أسابيع، بسبب ما اعتبره "خذلاناً من النقابات العمالية"، أن يغيّر من التكتيك الذي اتبعه لحد الآن. ولأجل ذلك، يصبو إلى جعل حركته حاضرة بقوة في الشأن الاجتماعي، وهو ما يرتكز على عمل لجان ثلاث، كانت مخاض نقاشات طويلة بين المناضلين، بخصوص تنامي الفقر في فرنسا، والتهرب الضريبي والانتهاء من النووي.
يبشر ميلانشون أنصاره بأن "ماكرون ليست لديه قاعدة اجتماعية"، و"لأن المواطنين سيواجهون نتائج سياساته"، وأن مرحلة جديدة تنفتح أمامه الآن. ولكن هذا السياسي المخضرم يدرك أكثر من غيره، أن الأمر يحتاج إلى تصديق من صناديق الاقتراع، وما ذلك اليوم ببعيد.