وعلى الرغم مما بدا أنه تأييد على مضض من قبل أكثر من طرفٍ سياسي لبناني، لاسم الخطيب كرئيسٍ للحكومة، في محاولة للخروج من المأزق الذي تعيشه البلاد منذ انطلاق الحراك الشعبي الاحتجاجي في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، واستقالة رئيس الحكومة سعد الحريري في 29 أكتوبر، إلا أنه ظهر منذ اللحظة الأولى أن الجميع يفضل تشكيل الأخير للحكومة الجديدة، ولو أن كلاً من زاوية حساباته الخاصة. لكن الأسلوب الذي أُبعد الخطيب من خلاله، إثر زيارته دار الفتوى، حيث تبلغ عدم وجود غطاءٍ له لترؤس الحكومة، على عكس ما يحظى به الحريري، وما أعقب ذلك من إعلان رئاسة الجمهورية تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة (يعلن النواب والكتل النيابية أسماء مرشحيهم لرئاسة الحكومة) لمدة أسبوع، أعادا طرح سؤال أساسي حول القدرة الفعلية لكل الطبقة السياسية في لبنان على انتشال البلد من الانهيار الذي يبدو متدحرجاً، والذي شهد فصولاً إضافية أمس، مع قطع الأمطار للطرقات، ما يشكل عامل ضغط آخر ضد السلطة، التي وجدت نفسها في مواجهة ملف فسادٍ جديد.
ولم يُسقط بيان اعتذار الخطيب اسمه فقط، بل أسقط معه، وحتى إشعارٍ آخر، كل الأسماء التي بالإمكان طرحها لتشكيل الحكومة، باستثناء سعد الحريري، في عودةٍ إلى التسوية الرئاسية القائمة منذ سنوات، والتي تقتضي أن تسمي كلُّ طائفةٍ دينية في لبنان الطرف الأقوى والأكثر تمثيلاً في الموقع الممنوح لطائفته في المعادلة السياسية. وأقدمت قيادات الطائفة السُنية (رئاسة الحكومة من نصيبها وفقاً لنظام المحاصصة القائم في البلد) على ما يمكن اعتباره انتفاضةً ضد إخراج الطرف الأقوى فيها من المعادلة السياسية لمصلحة أسماء بديلة، على الرغم من أن الإخراج (استبعاد الخطيب) بحدّ ذاته حمل الكثير من علامات الاستفهام والاستنكار، مع تحول دار الفتوى إلى مرجعيةٍ تحدد من يصل إلى سدة رئاسة الحكومة، على غرار تحول بكركي (مقر البطريرك الماروني)، منذ سنوات، إلى خطّ دفاع عن رئاسة الجمهورية (من حصّة الموارنة) عبر رسم خطوط حمراء أمام الشعب عند أي مفصلٍ سياسي.
وبدا واضحاً أيضاً من مجمل ما آل إليه المشهد السياسي، أن عملية شدّ الحبال التي بدأت فور استقالة حكومة الحريري قد تطول كثيراً. حتى داخل الأروقة السياسية، ثمة من يرجح فراغاً حكومياً طويلاً، وتعويماً لحكومة تصريف الأعمال برئاسة الحريري حتى إشعار آخر، خصوصاً أن كل الاتصالات التي تلت اعتذار الخطيب، أجمعت فقط على ضرورة تأجيل الاستشارات، ريثما تتبلور الصورة السياسية، من دون التوصل إلى حلّ كامل للأزمة.
وعلمت "العربي الجديد" أن الطرح الأكثر ترجيحاً هو في الذهاب إلى استشارات نيابية تسمي الحريري، خصوصاً أن تأجيل الاستشارات مرة جديدة يبدو مهمة مستحيلة، كما أن التوافق على شكل الحكومة، سواء كانت تكنوسياسية كما يطالب "التيار الوطني الحر" والثنائي الشيعي (حركة أمل – حزب الله)، أو تكنوقراط، كما يريد الحريري، في غضون أسبوع لا يزال بعيداً.
ويبدو أن هذا الخيار، في حال المضي به، قد ينقل أزمة التأليف إلى مرحلة ما بعد الاستشارات النيابية الملزمة، وبالتالي قد تطول فترة التأليف مع تمسك كل فريق بنظرته إلى الحكومة المقبلة ودورها، خصوصاً أن "حزب الله" و"التيار الحر" يعتبران أن حكومة تكنوقراط تعني انكساراً لهما، فيما يعتبر الحريري أن هذا الشكل للحكومة قد يكون الفرصة الأخيرة له لإنقاذ مستقبله السياسي وإرضاء الشارع، على الرغم من الرفض الشعبي لمناوراته، والذي بدا واضحاً أول من أمس الأحد، لا سيما مع توجه المحتجين، للمرة الأولى، باتجاه بيت الوسط (منزل الحريري) في العاصمة بيروت.
وعلى الرغم من ارتفاع حظوظ طرح تسمية الحريري، إلا أن لا شيء يبدو محسوماً، وهو يتطلب موافقة واضحة من الثنائي الشيعي، وكذلك "التيار الوطني الحر"، الذي ردد على مسامع من يعنيهم الأمر أن الكرة بعد أحداث يوم الأحد (انسحاب الخطيب) باتت في ملعب الحريري، الذي عليه إعلان موقف واضح وصريح، أولاً من طرح اسمه، وثانياً في حال رفضه، اختيار شخصية أخرى تلقى قبولاً سنياً، بما أن الإخراج الأخير لإبعاد الخطيب يصعب الادعاء بأن رئيس الحكومة المستقيل لم يكن خلفه، بدءاً من موقف رؤساء الحكومة السابقين، وصولاً إلى موقف دار الفتوى.
أما على ضفة تيار "المستقبل"، فلا يبدو أن الأجواء حملت جديداً، باستثناء توافق الحريري مع رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون على تأجيل الاستشارات. وتقول مصادر من تيار المستقبل، مطلعة على أجواء الاتصالات، لـ"العربي الجديد"، إن "موقف الحريري لا يزال عند القاعدة ذاتها: إما حكومة تكنوقراط برئاسته، أو حكومة يشكلها غيره، لكنه في المقابل أكد أن انفتاحه هذا لا يعني أنه قادر على الضغط على رؤساء الحكومة السابقين أو دار الفتوى"، لتجاوز بدعٍ طائفية بالأصل ابتدعها التيار الوطني الحر.
ويخشى الحريري من عدم تسهيل مهمته في ما لو قرر تشكيل الحكومة، بما يضعه أمام خيارات التنازل لمصلحة البلد، أو إبقاء حالة الفراغ. كما أن تبنيه علناً شخصية تلقى قبولاً في البيئة السنية، لن يعني ذلك أنها قد تلقى موافقة لدى الثنائي الشيعي، وهو ما حصل لدى طرح اسم الدبلوماسي نواف سلام على سبيل المثال.
ويمكن القول إن مناورات سعد الحريري، التي تصفها قيادات 8 آذار (حزب الله وحلفاؤه) بالدلع السياسي، تزيد من إرباك المشهد، خصوصاً أن الحريري، الذي رفع شعار "ليس أنا بل أحد غيري" متحدثاً عن عدم رغبته بتشكيل الحكومة، دعم الخطيب لتشكيل الحكومة قبل أن يتخلى عنه ضمنياً من خلال مؤقف رؤساء الحكومة السابقين ودار الفتوى. وبات يطرح السؤال حول مدى جدية الحريري في السماح لغيره بتشكيل الحكومة، خصوصاً بعد حرق عدد من الأسماء سياسياً.
عموماً تبدو الأيام الفاصلة محددة للأسماء، وكذلك لوجهة الحكومة المقبلة، خصوصاً أن المجتمع الدولي بدأ يضغط بقوة لتأليفها، وكذلك إطلاق عجلة الإصلاحات المطلوبة وفق مؤتمر "سيدر" الدولي (لدعم الاقتصاد اللبناني)، وذلك على مسافة ساعات من اجتماع مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان في العاصمة الفرنسية باريس غداً الأربعاء، بمبادرة فرنسية أممية، وبحضور الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ومشاركة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى ألمانيا وإيطاليا ومصر والسعودية والإمارات والبنك الدولي.