في مارس/آذار 2013، انتفضت الأحزاب الليبرالية واليسارية والناصرية في مصر، وعلى رأسها قيادات "جبهة الإنقاذ"، وكذلك المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بعد صدور قرارٍ من النائب العام الأسبق المستشار طلعت عبد الله، الذي كان محسوباً على رئيس الجمهورية المنتخب آنذاك محمد مرسي، بتفعيل المادة 37 من قانون الإجراءات الجنائية التي تنصّ على أنه "لكل من شاهد الجاني متلبساً بجناية أو جنحة يجوز فيها قانوناً الحبس الاحتياطي، أن يسلّمه إلى أقرب رجل من رجال السلطة العامة من دون احتياج إلى أمرٍ بضبطه".
وخصصت برامج الـ"توك شو" حينها ساعاتٍ طويلة لانتقاد هذا القرار، والتجريح في شخص النائب العام، واعتبر المنتقدون في وسائل الإعلام المختلفة أن هذا القرار سيؤدي إلى اضطراب أمني قد يفضي إلى "حرب أهلية"، وأنه يصب في مصلحة الخطط "المزعومة" لجماعة "الإخوان المسلمين"، لإنشاء "مليشيات إسلامية". وحصل ذلك على الرغم من أن القرار كان واضحاً في اقتصاره على الإبلاغ عن حالات "قطع الطرق وتخريب المنشآت العامة"، فضلاً عن كونه يسمح في حقيقته لمأمور الضبط القضائي، وهو الشرطي أو ضابط الجيش أو أي شخص يتمتع بالضبطية القضائية، بأن يرفض تسلم المتلبس أو يصرفه مباشرة.
تشخص هذه الذكرى في الأذهان بعد أكثر من ست سنوات، وبما تحمله من دلالات سياسية، على إثر الاحتفاء العام من قبل مؤسسات الدولة المصرية ووسائل الإعلام، في ظلّ صمت حزبي وحقوقي تام، بقرارٍ جديد يكرس الطبيعة "المكارثية" للنظام الحاكم، ويسلط المواطنين بعضهم على بعض، ويقنن التجسس بطريقة "العصافير"، كما يفضّل المصريون وصفها. ويتمثّل ذلك في إعلان مجلس الوزراء برئاسة مصطفى مدبولي، أول من أمس السبت، تخصيص رقم هاتف على تطبيق "واتساب" يحمل اسم "واتساب مصر"، للإبلاغ عن "أي رسائل تحريضية أو أحداث شغب أو أعمال تخريبية". وترجم مؤيدو النظام هذه الدعوة مباشرة إلى استخدامها كوسيلة للإبلاغ عن الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي التي تتضمن منشورات ومقاطع فيديو معارضة للنظام، سواء كانت تحرض على العنف أو التظاهر، أو تكتفي بالمعارضة الشفهية وبث الشكوى من ضيق الأحوال الاقتصادية وتردي الأوضاع المعيشية.
وهذه هي المرة الأولى التي يخصص فيها مجلس الوزراء رقماً للإبلاغ عن "الرسائل التحريضية" بهذا التعبير المطاط الذي يمكن تفسيره بصورٍ شتى، ما يفتح الباب للإيقاع بالأبرياء من ارتكاب أي جرائم على خلفية الأهواء السياسية وحدها. وهذا الأمر حدث بالفعل مع العديد من الأشخاص خلال الشهور الماضية، نتيجة إعلان سابق من المجلس الأعلى للإعلام برئاسة مكرم محمد أحمد، لمطالبة المواطنين بإبلاغه عبر "واتساب" عن الكتابات التحريضية، فتم القبض على العشرات في كل المحافظات وإحالتهم إلى النيابة العامة وتحريك قضايا ضدهم، فضلاً عن إتاحة وزارة الداخلية رقماً ساخناً للغرض ذاته.
وقالت مصادر قضائية في محكمتي جنايات القاهرة والمنصورة، إن الشهور الخمسة الماضية شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في عدد القضايا المحالة من النيابة العامة بسبب ما ينشره الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي بعض الأحيان يؤاخذ المستخدمون على تعليقات يكتبها أصدقاؤهم أو معارفهم من خارج البلاد على صفحتهم الشخصية، وتعتبر النيابة مجرد نشرها على الصفحة والسكوت عليها مخالفة لقانون الجريمة الإلكترونية.
وأضافت المصادر أن هناك تعليمات من النائب العام السابق نبيل صادق، وأقر استمرارها النائب العام الجديد حمادة الصاوي، بفحص صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بالمتهمين في قضايا ذات طابع سياسي بشكل عام، وقضايا التظاهر والتحريض عليه بصفة خاصة. هذه التعليمات لا تقتصر على الأخذ بنتيجة الفحص كقرينة أو دليل إضافي على ارتكاب الجريمة المنسوبة للمتهم، بل يجري استخدامها بهدف "ضبط أي جرائم أخرى يكون المتهم قد ارتكبها بواسطة صفحاته الشخصية على تلك المواقع".
وعمد نظام عبد الفتاح السيسي منذ صعوده للسلطة إلى فرض سيطرته على مواقع التواصل الاجتماعي، التي كانت ولا تزال تمثل الخطر الأبرز على استقراره، في ظل استمرار القمع السياسي والميداني وإغلاق المجال العام. وشهد العام الماضي استحداث قانون الجريمة الإلكترونية الذي يزخر بالجرائم التي يمكن أن تنسب إلى أي صفحة تواصل اجتماعي، ومنها الاعتداء على أي من المبادئ والقيم الأسرية في المجتمع المصري والمعاقب عليها بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة تصل إلى 100 ألف جنيه. ثم أصدر السيسي قانون تنظيم الصحافة والإعلام الذي أخضع تحت سلطة المجلس الأعلى للإعلام الصفحات الشخصية التي يزيد عدد متابعيها على خمسة آلاف شخص، بحيث يحظر عليها، مثل المواقع الصحافية، طائفة (مطاطة أيضاً) من الأفعال مثل نشر أو بث أخبار كاذبة، والتحريض على الكراهية، والدعوة إلى التمييز، وامتهان الأديان والعقائد.
وتبشر صور "المكارثية" و"الإقصائية" التي مورست ضد الإسلاميين في السنوات الماضية، بدخولها آفاقاً جديدة، مع تسليط المواطنين على بعضهم، في ظل تزايد حالة الاحتقان في الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي وانخراط مئات الآلاف من المواطنين في نشر مقاطع الفيديو التي يبثها المقاول والممثل محمد علي والدعوات المتجددة للتظاهر ضد النظام ومواصلة الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في 20 سبتمبر/أيلول الحالي. ويجري ذلك مع انتشار مضاد من قبل اللجان الإلكترونية التابعة للاستخبارات والأمن الوطني من جهة، وأمر النائب العام بتصفح حسابات التواصل الاجتماعي للمعتقلين في قضية التظاهر المفتوحة حالياً ومناقشتهم بشأنها من جهة أخرى.
وخلال الأعوام من 2013 إلى 2016، أحيل مئات العاملين في قطاعات التعليم والكهرباء والاتصالات في الحكومة، وعشرات من أعضاء هيئات التدريس في الجامعات، وعشرات من القضاة، إلى التحقيقات التي انتهت بفصل العشرات منهم أو إحالتهم للمحاكمة التأديبية نتيجة بلاغات من زملائهم ومجهولين ضدهم بأنهم ينتمون إلى "جماعة الإخوان" أو يعارضون السيسي، من دون ارتكاب أي جرائم واضحة. وفتحت النيابة الإدارية، وهي هيئة قضائية ينص الدستور على أنها مستقلة ويعين السيسي حالياً رئيسها، الباب أمام شكاوى "العصافير"، بأن حركت قضايا ضد الموظفين المشكو في حقهم، بحجة أن زملاءهم الشاكين "يتضررون من تصريحاتهم وتصرفاتهم المسيئة للدولة".
ومن أبرز النماذج على هذه الحالة الإقصائية، صدور حكم من المحكمة الإدارية في يونيو/حزيران 2018 بفصل المدير العام في اتحاد الإذاعة والتلفزيون علي أبو هميلة، من الخدمة، نتيجة شكوى تقدّم بها أحد زملائه إلى إدارة أمن ماسبيرو ضده، لكتابته على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" أن "تيران وصنافير مصرية ومن يقول غير ذلك خائن". وتزامن التوسع في قبول هذه الشكاوى كدلائل إدانة مع تكليف إدارات الأمن في دواوين الوزارات والمديريات في مختلف المحافظات، وإدارات التفتيش في الهيئات القضائية، بمراقبة الصفحات الشخصية للموظفين والقضاة لاستخدامها في اصطياد العشرات منهم وتحريك دعاوى تأديبية ضدهم أو إحالتهم للتحقيق.