فالرجل الذي لم يكن أربعينياً، حين وصوله إلى السلطة، يبدو كما لو أنه قضى خمس سنوات في الحكم. التجاعيد تبدو كأنها تغزو وجهه، وشعر رأسه بدأ يخفّ. للسلطة ثمنٌ، وماكرون الذي كان لا يَنام إلا ثلاث ساعات، ما يدفع مستشاريه المقربين لمسايرته، ولو على حساب صحتهم وتوازن عائلاتهم، يبدو أنه يحتاج اليوم للخلود للراحة، ولو لبعض الوقت.
بدا ذلك جليّاً من انعقاد المجلس الحكومي، اليوم، أي قبل موعده بيوم، حتى يستطيعَ الرئيس الفرنسي الركون إلى الاستراحة، أياماً، ليعود بعدَها، بعد استعادة قواه، إلى معاودة نشاطه، الذي يبدأ يوم الأحد المقبل، ويقوده، خلال ستة أيام، إلى منطقتين و11 محافظة و17 مدينة وبلدة، في إطار الاحتفال بمرور قرن على "الهدنة" إبان الحرب العالمية الأولى، قبل أن ينتهي في باريس، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، من دون تنظيم عرض عسكري، وبحضور العشرات من رؤساء الدول والمنظمات الدولية، من بينهم الرئيسان الأميركي والروسي، دونالد ترامب وفلاديمير بوتين.
والحقيقة أن هذه العطلة غير المسبوقة منذ انتخابه في العام 2017، تضع حدّاً لمسار زعيم شابّ، لم تكن تبدو عليه آثار التعب، والذي كان يروق له، أحياناً، أن يهاتف مساعديه ومستشاريه في عزّ الليل، وهو ما كان يجعلهم في حالة تأهب دائم.
وإذا كانت أخبار كثيرة تتحدث عن ضغوط يتعرض لها ماكرون من زوجته بريجيت، وهي أفضل مستشاريه، للخلود لبعض الراحة، إلا أن الرئيس نفسه كان بحاجةٍ لهذه الأيام القليلة، التي لم يَكشف الإليزيه أيَّ شيء عن نشاطٍ محتمل للرئيس فيها.
ولا تبدو ذرائع ومبررات هذا الخلود القصير للراحة، قليلة، فإيمانويل ماكرون عاد إلى فرنسا من زيارات دولية مرهقة، واستطاع أن يزور خلال ما مضى من ولايته الرئاسية نحو 20 بلداً أوروبياً.
والشيء الأكثر إرهاقاً، ولعله نفسيّ، هو إخفاقه المستمر في فرض مواقف فرنسا ورؤيتها للسياسة الدولية، ليس فقط في سورية، حيث لم يستطع الخروج بنتيجة واضحة للصراع، بعد اللقاء الرباعي في تركيا، مع الروس والأتراك والألمان.
كما أن الرئيس الفرنسي لم يستطع، رغم لباقته ودبلوماسيته، وأحياناً "لغته الخشبية"، حين يتحدث عن ترامب، أن يغير من مواقف الأخير، التي لا تخلو من عنف وفجائية، ولا أن يخفي اختلاف المواقف بين باريس وواشنطن، وأيضاً المصالح، خاصة الاقتصادية والبيئية.
وليس الأمر على الصعيد الأوروبي، وهو الزعيم الأوروبي المقتنع والمؤمن بمعجزات الاتحاد الأوروبي، أفضل حالاً. إذ يجد نفسَه وهو يتأمل، دون قدرة على ردّ الفعل، صعود قِوى أوروبية محافِظة وشعبوية وقومية، على الحدود، في إيطاليا وفي ألمانيا، إضافة إلى بعض دول أوروبا الشرقية، يرى فيها عائقاً للاتحاد الأوروبي وتجانسه.
ولا شك في أن ماكرون، الذي عوّل أثناء حملته الانتخابية، ثم بعد فوزه الانتخابي، وبسبب "البريكسيت"، على اتحادٍ أوروبي تقوده قاطرتان، ألمانية وفرنسية، يتأمل، عاجزاً، عدم مسايرة برلين رؤيتَه الأوروبية، بسبب تحالفات أنجيلا ميركل الهجينة، ثم الهزائم الانتخابية المتلاحقة لها، وهي تقرر، تدريجياً الانسحاب من قيادة حزبها، قبل أن تختفي نهائياً من المسرح السياسي.
ماكرون في حاجة إلى الراحة أيضاً، كي يتأمل، جيداً - من أجل استخلاص الدروس والعِبَر-انهيار شعبيته، بعد سلسلة فضائح، وبعدما انفضّ عنه بعض مقربيه، كنيكولا هولو وجيرار كولومب، وتصاعد شعبية رئيس حكومته إدوار فيليب، القادم من اليمين، والذي يبدو أن خطابه المتقشف يُثيرُ من الفعل والاستجابة أكثر من فعل خطابات ومخرَجَات الرئيس الفرنسي.
كما لا يخفى أيضاً، أن ماكرون، على الرغم من عدم اكتراثه المعلَن لاستطلاعات الرأي، كما يُكرّر دائماً، قلِقٌ من تصاعد نجم رئيس حكومته، ما تبدّى في تأخر تعيين وزير الداخلية خلال أسبوعين، وهو ما يفسّر الصمت الرئاسي في شؤون الداخل، حيث ترك لرئيس الحكومة مسؤولية تفسير الإصلاحات وبعض الإجراءات غير الشعبية، كالزيادة في رسوم البنزين وإصلاح الوظيفة العمومية، الذي يقترح زيادة عدد المتعاقدين وخفض الموظَّفين، لعموم الفرنسيين.
هي استراحة محارب، فقط، كما يبدو، فالرئيس الفرنسي لن يسمح لأحد بأن يقرر مكانَه، فالدرس واضح: "رئيس الحكومة يقترح والرئيس يقرّر"، في انتظار عودة الشعبية للأخير.
هي عودة شعبية تسمح له بتمرير إصلاحاته القاسية، بدرجةِ تذَمُّرٍ أقلّ، وأيضاً بتسجيل اختراق كبير في الانتخابات الأوروبية المقبلة، يضاف إلى سيطرته، دون تقاسم، على مجلس النواب.