أخذت الحكومة الأفغانية فترة في تسمية هيئة مفاوضيها مع حركة "طالبان"، وخلال تلك الفترة، وحتى من قبلها، وجهت لها انتقادات لاذعة من قبل شرائح سياسية عدة، كانت تصفها بغير القادرة على لم شملها أو توحيدها بشأن القضية. وليست "طالبان" وحدها من وجهت سهامها نحو الحكومة، بل اتهمتها مختلف الأطراف بأنها غير قادرة على تسمية المفاوضين، وعلى جمع كلمة الطرف المعارض لـ"طالبان". لكن الحكومة كانت تقول إنها تستشير كل الأطياف من أجل هيئة تفاوضية تشمل الجميع، وتكون قادرة لا على تمثيل الحكومة فقط، بل جمهورية أفغانستان الإسلامية، على حدّ قولها.
أخيراً وبعد طول انتظار، سمّت الحكومة أعضاء تلك الهيئة برئاسة رئيس الاستخبارات السابق محمد معصوم ستانكزاي، الذي كان شغل أيضاً منصب رئيس اللجنة العليا للمصالحة قبل أن يصبح رئيساً للاستخبارات في حكومة أشرف غني السابقة، وهو من المقربين له. وهنا أيضاً، وجّهت انتقادات للحكومة من قبل الأطراف السياسية، واعتبر كثيرون أنّ الهيئة المشكلّة ناقصة فيما أعضاؤها غير أكفاء. ومن بين العديد من الأسباب التي تقف وراء الانتقادات، أنّ حكومة غني لم تأخذ في عين الاعتبار المقترحات التي قدمتها الأحزاب السياسية بشأن الهيئة التفاوضية، أو لم تستشر بخصوصها رموزا في الساحة السياسية، كالرئيس السابق حامد كرزاي، وزعيم الحزب الإسلامي، قلب الدين حكمتيار، اللذين صرحا بالفعل بأنّ الحكومة لم تستشرهما بخصوص الهيئة المشكلة.
وكانت حركة "طالبان" أعلنت السبت الماضي، أنها لن تتفاوض مع هذه الهيئة "لأنها لم تشكل بطريقة تشمل جميع أطياف الشعب الأفغاني، وهو ما قد يشكل عقبة في وجه عملية السلام الأفغانية التي مرت بمراحل مختلفة، حتى تصل إلى هذه الفترة الحساسة، وهي فترة الحوار الأفغاني - الأفغاني".
ولا شكّ في أنّ تشكيل الهيئة بصورتها الحالية يثبت أنّ الحكومة الأفغانية وضعت نصب عينيها الاعتبارات والتجاذبات السياسية أكثر من أي شيء آخر، والدليل الواضح على ذلك هو تعيين شابين ليس لديهما أي نوع من التجربة، لا في الحرب ولا في السلم، كأعضاء في هيئة التفاوض مع "طالبان"، وهما: خالد نور، نجل عطاء نور، الأمين العام للجمعية الإسلامية وأحد أهم المعارضين سابقاً لغني، والذي ترك أخيراً رفيق دربه عبد الله عبد الله منافس الرئيس الأفغاني ووقف بجانب الأخير. وكذا باتور دوستم، نجل الجنرال عبد الرشيد دوستم، النائب الأول للرئيس غني سابقاً، والذي وقف بجانب عبد الله عبد الله في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ضده. ولكن غني بحاجة إلى دعم دوستم في ظلّ الجدل الموجود حالياً على منصب الرئاسة بينه وبين عبد الله، وربما استطاع أن يحصل على رضاه، وهو الأمر الأهم للرئيس الأفغاني في الوقت الراهن.
وعلى الرغم من كل الانتقادات في هذا الخصوص، إلا أنّ الجميع كانوا يحثون على إطلاق المرحلة الثانية من عملية السلام، والمتمثلة ببدء الحوار بين "طالبان" والهيئة التي شكلتها الحكومة. وفي هذا السياق، قالت فوزية كوفي، وهي من الوجوه السياسية المعارضة للرئيس الأفغاني، وعينت عضوا في هيئة التفاوض مع "طالبان"، في تصريحات لها أخيراً: "كان من الممكن تشكيل هيئة أحسن من هذه، ولكن الهيئة الحالية تمثّل الجانب المقابل لطالبان، وهي شاملة إلى حدّ ما، وعلينا ألا نختلق الأعذار، ونمضي قدماً إلى الأمام".
بدوره، قال القائد الجهادي السابق عبد الرب رسول سياف، وهو زعيم حزب "الدعوة" ومن رموز السياسة الأفغانية، إنّ "معارضة طالبان لهيئة التفاوض الحكومية يضرّ بعملية السلام"، مشيراً في تسجيل مصور أول من أمس الأحد، إلى أنّ "الهيئة تمثل جميع الأطياف، وبالتالي معارضتها قد تضر بهذه الفرصة". وأكّد أنّ "على الجميع أن يصبوا اهتمامهم على المضي قدماً إلى الأمام"، مطالباً الهيئة أيضاً بأن تكون "يداً واحدةً من أجل إيصال عملية السلام إلى برّ الأمان".
والسؤال الذي يطرح نفسه في خضم كل هذا الجدل، هو لماذا ترفض "طالبان" هذه الهيئة الحكومية، ولماذا تتدخّل في شأن لا يعنيها، كما تقول الحكومة، والتي تشدد على أنّ الحركة يجب أن تناقش هيئة التفاوض التي تمثلها في الحوار مع الحكومة، لا أن تناقش بشأن هيئة لا تمثلها، أو تمثّل الجانب المعارض لها. في المقابل، من حق السياسيين الأفغان أن يرفعوا صوتهم من أجل المشاركة في الهيئة، وأن يكون فيها من يمثلهم في الحوار مع "طالبان".
وللإجابة عن السؤال المطروح، يمكن الإشارة إلى أربعة دواعٍ وأسباب وراء رفض "طالبان" للحوار مع هذه الهيئة الحكومية المشكلة:
أولاً، أنّ حركة "طالبان" ترفض منذ البداية التفاوض مع الحكومة، لذا هي لا تسمي هذه المرحلة الأهم لمستقبل البلاد، بمرحلة الحوار بينها وبين الحكومة الأفغانية، بل مرحلة الحوار الأفغاني-الأفغاني. وثمّة اعتقاد سائد في أوساط قيادة الحركة، لا سيما الميدانية، بأنّ لا حوار مع حكومة أشرف غني، بل الحوار مع الجانب الأفغاني، وهو ما تعيّنه جميع الأطراف والأطياف الأفغانية، أي ليس الحكومة فقط. والهيئة التي تشكلها الحكومة سيكون مسيطرا عليها من قبل الأخيرة، وستكون متشددة في التعامل مع الحركة، ذلك لأنّ الخطوط الحمراء للتصالح مع "طالبان" سترسمها حكومة أشرف غني لها. من هنا، تسعى الحركة للمضي قدماً في موقفها الرافض للحوار مع الحكومة الأفغانية، وهذا مبدأ واضح لدى كل قيادات "طالبان"، فالتفاوض مع هذه الهيئة وبهذه الصورة، هو تفاوض مع الحكومة.
ثانياً، أنّ "طالبان" تخشى من أنّ الحوار مع هذه الهيئة، حتى ولو وصل إلى أي نتيجة، سيؤدي لا محالة إلى بقاء حكومة أشرف غني، وستكون المصالحة معها على نمط المصالحة مع زعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، الذي جاء إلى كابول نتيجة المصالحة مع حكومة أشرف غني، وخاض المعترك السياسي، إذ رشح نفسه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وحصل على بعض الأصوات. لكن "طالبان" لن ترضى على أي حال بمثل هذه الحلول، وهي تتطلع للوصول إلى توافق مع الجانب الأفغاني- تكون الحكومة جزءاً منه ولا تديره- حول الخطوط الرئيسية، ثمّ تشكيل حكومة توافقية. هذا، بينما بعض المتشددين من القيادات في الحركة، لن يرضوا بذلك أيضاً، وهم يدعون إلى قيام حكومة طالبان-الإمارة الإسلامية، مثلما كانت قبل سقوطها على يد أميركا في العام 2001.
ثالثاً، كانت "طالبان" تتطلّع لأن يكون من بين أعضاء الهيئة وجوه سياسية كان لها تعاطف مع الحركة، وهي تقبل أي نوع من التنازل من أجل مجيء الحركة إلى الساحة السياسية وإلقائها السلاح، على غرار الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي، وزعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، وزعيم الجبهة الإسلامية حامد جيلاني، وغيرهم من الأسماء، فيما جميعهم غائبون عن الهيئة وهم وجوه بارزة في الساحة السياسية.
رابعاً، إنّ الكثير من أعضاء هذه الهيئة، على الرغم من أنهم يمثلون أطرافا مختلفة في البلاد، لهم تاريخ طويل من الصراع مع "طالبان"، وقد تكون مصالحهم بخطر إذا ما جاءت الحركة إلى سدّة الحكم.
كلّ تلك الأسباب تؤدي إلى اعتراض "طالبان" على الهيئة الحكومية، ورفض الحوار معها، ليثير ذلك بدوره تساؤلات حول مستقبل عملية السلام، إذ يخشى الأفغان من أن يدفع ذلك الرفض العملية نحو المجهول، مما قد يؤدي إلى استمرار دوامة العنف، وسقوط الأفغانيين من الطرفين بين قتيل وجريح في حرب لا تعرف نهايتها. هذا بالإضافة إلى الخشية من عودة الحرب الأهلية إذا ما أصرّت الولايات المتحدة على إخراج قواتها، وفق ما تم التوافق عليه بينها وبين "طالبان" في 29 فبراير/شباط الماضي في العاصمة القطرية الدوحة عند توقيع اتفاق السلام.
وفي ظلّ أجواء من الغموض تحيط بعملية السلام بعد التطورات الأخيرة، عقد الاجتماع الثالث بين هيئة التفاوض الحكومية الخاصة بقضية الإفراج عن الأسرى، وبين هيئة "طالبان" المعنية في الموضوع نفسه، عبر نظام الفيديو كونفرانس، أول من أمس الأحد، واتفق الطرفان على توجّه هيئة من الحركة إلى العاصمة كابول بمساعدة الصليب الأحمر، من أجل التباحث بشأن الأسرى مع الحكومة الأفغانية، وذلك بعد أن تأخّر هذا الأمر، إذ كان من المتوقع أن تأتي الهيئة الأسبوع الماضي إلى كابول.
وإذا ما حلّت معضلة الأسرى خلال زيارة الهيئة، وهي من أصعب القضايا في ملف المصالحة الأفغانية، هناك أمل بحلّ المعضلة الثانية، وهي رفض "طالبان" التفاوض مع الهيئة الحكومية.