وفي جميع الأحوال، يُعدّ فكّ ما قد يكون أطول حصار حديث مفروض على دولة عضو في الأمم المتحدة، حدثاً تاريخياً بامتياز، يرى فيه كثيرون أنه يُشكّل نهاية رسمية للحرب الباردة، بعد أكثر من عقدين على نهايتها نظرياً، في معظم دول العالم.
لم يكن قطع العلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا قراراً عادياً ولا ناجماً عن خلافات عابرة، بل تزامن مع أزمتين خطيرتين بين البلدين، هما أزمة خليج الخنازير في 1961 وأزمة الصواريخ الكوبية في العام الذي تلاه. وكادت الثانية أن تؤدي إلى حرب نووية بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.
وتعود جذور التوتر إلى عام 1959، عند فقدان الولايات المتحدة امتيازاتها الاقتصادية في كوبا، إثر سقوط نظام فولخنسيو باتيستا، الموالي لها، ونجاح الثورة الكوبية الاشتراكية بقيادة فيدل كاسترو المتحالف مع الاتحاد السوفييتي في ذروة الحرب الباردة.
وقادت الاستخبارات الأميركية الصراع ضد كاسترو بهدف الإطاحة به، فعمدت إلى تدريب وتسليح عناصر المعارضة الفارّين من بلادهم. وغامرت في بداية عهد الرئيس جون كينيدي بإنزال المئات من هؤلاء في خليج الخنازير الكوبي، للهجوم على ثكنات الجيش الكوبي وقلب نظام الحكم، تنفيذاً لخطط أُعدّت في عهد الرئيس الأسبق دوايت آيزنهاور. باء الهجوم بالفشل بفعل استبسال المقاومين للغزو، ووصف كاسترو المهاجمين بـ"المرتزقة".
وفي عام 1962 اكتشفت الاستخبارات الأميركية عبر جواسيسها في كوبا، وجود منصات إطلاق صواريخ تحمل رؤوساً نووية، موجّهة نحو الأراضي الأميركية، فردت الولايات المتحدة بفرض حصار بحري على الجزيرة الكوبية، وهدد كينيدي بالحرب، إن لم يتم تفكيك الصواريخ وإعادتها إلى الاتحاد السوفييتي، فامتثلت القيادة السوفييتية تفادياً لنشوب حرب نووية.
وفرضت الولايات المتحدة عقوبات تجارية على كوبا للمرة الأولى في عام 1962، وحظرت سفر الأميركيين إلى الجزيرة في العام التالي، وقيدت التعاملات التجارية مع الجزيرة بصرامة على مدى أكثر من 50 عاماً.
وخلال العقود اللاحقة ظلّت العلاقات بين البلدين تتراوح بين التوتر والتوتر الشديد، كما بدأت بينهما حرب تجسس وجواسيس سقط بعضهم في قبضة الطرف الآخر.
ومثلما كان المرتزقة، حسب التوصيف الكوبي، هم السبب المباشر لقطع العلاقات مع الولايات المتحدة، فإن الجواسيس كانوا سبباً مباشراً آخر لإعادتها، في إطار صفقة تبادل الجواسيس بين البلدين، حسب ما تسرّب من روايات عن بداية المفاوضات.
وتأخر إعلان صفقة التبادل بعض الشيء، وفقاً لبعض المصادر الإعلامية، لأن البيت الأبيض كان مصراً على أن السجين الأميركي آلن غروس ليس جاسوساً، في مقابل اعتراف الجانب الكوبي بالدور التجسسي الذي قام به مجموعة الكوبيين الخمسة، الذين تصفهم الحكومة الكوبية بـ"الأبطال".
أما غروس (64 عاماً)، فهو يهودي أميركي، وزوج وأب ويملك تاريخاً طويلاً في تقديم المساعدة للمجتمعات المحرومة في أكثر من 50 بلداً. وكان يعمل مقاولاً، عندما اعتقل في مطار هافانا قبل خمس سنوات، بتهمة "توفير تجهيزات اتصال عبر الأقمار الاصطناعية لمجموعات مناهضة للحكومة في كوبا". وكان اعتقاله عاملاً من عوامل التوتر، إنما بحسب مبدأ "اشتداد الأزمة الذي يؤدي إلى الانفراج".
فكان وجوده بمثابة ورقة بيد الكوبيين، ساهم في فكّ حصار الـ52 عاماً عنهم. مع العلم أن محكمة كوبية، حكمت عليه بالسجن لمدة 15 سنة بتهمة "تسهيل عقود إنترنت غير خاضعة للرقابة بين مجموعة دينية صغيرة على الجزيرة ليعرف بها العالم".
قضت صفقة التبادل بالإفراج عن ثلاثة كوبيين، هم من تبقّى من مجموعة الخمسة الذين أُدينوا أمام القضاء الأميركي في عام 2001، بتهمة "التجسس لصالح النظام الكوبي". بالتالي فإن، وقع صدمة "إعادة العلاقات"، كان أشبه بالزلزال، كون الأميركيين، بمن فيهم مليونا أميركي من أصل كوبي، اعتادوا على سماع نغمة واحدة هي "أن النظام القائم في كوبا متسلّط ويجب تحرير الشعب الكوبي منه، وإقامة نظام بديل". ووصل الأمر بمعظمهم إلى وصف ما فعله أوباما بأنه "حرّر كوبا من الحصار الأميركي، ولم يُحرّر الجزيرة الكوبية من قبضة النظام القمعي"، حسب ما كانوا متوقعين.
وفي السياق، هاجم رئيس مجلس النواب الأميركي، جون بينر (جمهوري)، بشدّة التحوّل في سياسة أوباما (ديمقراطي) تجاه كوبا، إلى حدّ وصفه بأنه "تنازل آخر في سلسلة طويلة من التنازلات الطائشة لدكتاتورية متوحشة". وذكر بينر في بيان صادر من مكتبه، أن "العلاقات مع نظام كاسترو لا يجب تغييرها، ناهيك عن تطبيعها، ليس قبل أن يتمتع شعب كوبا بالحرية، وليس قبل ذلك ولو بثانية واحدة".
ونقلت وسائل الإعلام الأميركية عن منتقدين لإعلان أوباما، قولهم إنه "لا يجب مكافأة كوبا لأنها لم تتغير". كما أدلى حاكم فلوريدا السابق والمرشح الرئاسي الجمهوري المحتمل في انتخابات 2016، الجمهوري جيب بوش، بدلوه في الموضوع، ونقلت عنه صحيفة "يو.اس.ايه توداي"، قوله "لا أعتقد أننا يجب التفاوض مع نظام قمعي لإجراء تغييرات في علاقتنا".
وأعلن السناتور ماركو روبيو، الأميركي من أصل كوبي، وينتمي للحزب الجمهوري، أنه "سيستخدم دوره كرئيس مقبل للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، لمحاولة عرقلة الخطة"، وأنه "ملتزم بعمل ما في وسعه لتفكيكها".
وقال عضوا مجلس الشيوخ جون ماكين ولينزي غراهام، اللذان سيتولّان مهام كبيرة في مجلس الشيوخ، إن "التحوّل في السياسة، يدلّ على أن أميركا والقيم التي تدافع عنها في تراجع وانحدار". وأفادت الصحف المحلية، بأن "تظاهرات خرجت الأربعاء في حي هافانا، في مدينة ميامي في جنوب فلوريدا، الذي يقطنه ما يزيد على 800 ألف مهاجر كوبي، من بين ما يقارب المليوني مهاجر يعيشون في الولايات المتحدة، علماً أن أبرز التجمّعات الكوبية الأخرى تقع في مقاطعتي هدسون ويونيون، في ولاية نيوجرسي، القريبتين من نيويورك.
ورفع المتظاهرون شعارات غاضبة، مرددين هتاف "خائن.. خائن.. خائن"، في إشارة إلى أوباما. وقال أحد المتظاهرين المسنّين "أمضينا 50 عاماً من الكفاح، من أجل تحقيق استقلال كوبا، ولكننا تعرّضنا للتو لطعنة من الخلف بسكين أوباما". وتوضح هذه المواقف المتشنجة الغاضبة مدى أهمية القرار، الذي اتخذه أوباما، ومدى محاولته التميّز عن سياسات رؤساء أميركا السابقين، منذ عهد آيزنهاور حتى عهد جورج بوش الابن، تحديداً.
قد كانت السياسات السابقة تتمحور حول أهداف متفرّعة من هدف رئيسي واحد، هو إسقاط نظام كاسترو. وظلّ البيت الأبيض طيلة 50 عاماً، يزعم أن "هدف الولايات المتحدة الأساسي هو دعم الشعب الكوبي في الانتقال إلى الديمقراطية، ونقل كوبا إلى اقتصاد السوق الحر، ووضع نهاية للدكتاتورية المستبدة في كوبا". وكان آخر رئيس تبنّى مثل هذا الخطاب بقوة هو بوش الابن.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2003، أنشأ بوش لجنة "تحرير كوبا"، وعيّن وزير خارجيته حينها، كولن باول، رئيساً لها. وفي عام 2005 سمّى بوش ست دول "راعية للإرهاب"، وهي كوبا، وسورية، وإيران، وليبيا، وكوريا الشمالية، والسودان.
وكانت كوبا من الدول التي أُدرجت في القائمة منذ عام 1982، وأعلنت معارضتها القوية لحرب العراق 2003، وأدانت علناً سياسات وتدابير مكافحة الإرهاب الأميركية، واتهمتها واشنطن بـ"إيواء هاربين من وجه العدالة الأميركية".
وفي عام 2007، أعلن بوش عن تدابير إضافية ضد كوبا، من بينها "دعم تظاهرات سلمية، مناوئة لنظام الحكم الكوبي، وتوحيد صفوف المعارضين الكوبيين، المطالبين بتغيير النظام". وخصصت إدارة بوش 45 مليون دولار لتمويل جهود تغيير نظام كاسترو، تحت مبرر أن "من حق الشعب الكوبي صياغة مصيره، بعيداً عن النظام الدكتاتوري لكاسترو وشقيقه الأصغر راؤول، اللذين حكما البلاد منذ عام 1959". وأسست إدارة بوش محطة تلفزيون للبث باللغة الإسبانية موجّهة إلى كوبا من أجل الترويج لهذا الهدف.
لكن ثمار هذه السياسة لم تؤت، بل دفعت بقيادات من الحزب الديمقراطي، إلى الاعتراف بأن السياسة الخارجية تجاه كوبا "تعاقب المواطنين الأميركيين من خلال حرمانهم من حق السفر، ولم تحقق شيئاً في إضعاف نظام كاسترو، وقد طال كثيراً انتظار تغيير هذه السياسة غير الحكيمة".
وقبل إعلان قرار إعادة العلاقات، لم يعارض الفكرة سوى 20 في المائة ممّن أدلوا بآرائهم في استطلاع للرأي، نشرت نتائجه وكالة "رويترز"، في حين أيّد 43 في المائة من المستفتين إعادة العلاقات مع كوبا. وتزايد عدد أعضاء الكونجرس، الذين يفضّلون تطبيع العلاقات مع كوبا، مع العلم أن معظمهم ينتمي للحزب الديمقراطي، على أن الكلمة العليا ستكون لخصومهم في مجلسي الكونجرس بدءاً من العام الجديد.
طيلة الحقبة الماضية، كانت سويسرا ترعى المصالح الأميركية لدى كوبا، كما ترعى المصالح الكوبية لدى الولايات المتحدة، عن طريق مكتب لرعاية المصالح في كل من سفارتيها في واشنطن وهافانا. وتسبق كوبا الولايات المتحدة في متوسط أعمار الأفراد، إذ ارتفع متوسط عمر الفرد فيها من 64 سنة في 1960، إلى 79 سنة في 2012، بسبب التقدم الطبي فيها وانخفاض نسبة وفيات الرضع. وتأتي كوبا بذلك في المرتبة 38 عالمياً، بينما تأتي الولايات المتحدة بعدها بفارق مركزين. وتعتمد 62 في المائة من الأسر الكوبية على تحويلات من أقاربها المغتربين في الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن يؤدي رفع القيود، إلى تدفق موجات كبيرة من السياح الأميركيين على الجزيرة.
يُذكر أنه في السابق، كان باستطاعة الكوبيين المقيمين في الولايات المتحدة زيارة الجزيرة مرة واحدة سنوياً للقاء ذوي القربى. كما حدّد القانون أنه بوسع كل شخص إرسال ملبغ 1200 دولار سنوياً فقط إلى أفراد عائلته في الجزيرة. ولا يزال حظر إرسال أموال إلى كبار المسؤولين الحكوميين وأعضاء في الحزب الشيوعي الكوبي قائماً، كما لا يزال حظر التجارة مع كوبا نافذاً.
وطبقاً للقوانين التي لا تزال سارية، لا يستطيع حاملو جوازات السفر الأميركية، الراغبون بالتوجه إلى كوبا إلا عبر الحصول على ترخيص من وزارة التجارة الأميركية، ضمن شروط معينة، أهمها: أن يكون لدى طالب الترخيص أقارب كوبيون من الدرجة الأولى يرغب في زيارتهم، أو أن يكون في مهمة حكومية، أو ضمن منظمة دولية، أو أن يكون صحافياً أو مرافقاً لصحافي في مهمة إعلامية، أو أن يكون باحثاً مهنياً في مهمة بحثية، أو أن يكون طالباً أو مدرساً في معهد تعليمي، أو عضواً في منظمة دينية أو تبشيرية، أو فناناً أو رساماً أو رياضياً يشارك في نشاط مرتبط بفئته، أو عضواً في فريق خدمات لمساعدة الشعب الكوبي، أو عنصراً في مشروع خيري أو خدمات إنسانية، أو مشاركاً في نشاط بحثي خاص أو عام، أو أن يكون من ضمن العاملين في حقل تبادل المعلومات، أو أن يكون ضمن فريق عمل في أي مهمة ترى السلطات الأميركية أنها تستحق الترخيص له بالسفر إلى كوبا.