على مر التاريخ، كانت فيشخابور منطقة فصل بين القوميات العربية والتركية والكردية، وفيها جرت معارك كبيرة عبر القرون الماضية، من بينها معركة "تطهير أرض السواد" بعد تحصن جنود الإمبراطورية الفارسية المنهزمة بمعركة القادسية فيها بالقرن السادس للميلاد. ومنها أيضاً دخل المغول إلى بغداد. وتعود اليوم مجدداً إلى واجهة الأحداث بعنوان مختلف، لكن الهدف ما زال نفسه: السيطرة على المنطقة بدوافع قومية لا دينية، فيما طرفا المعادلة هذه المرة هما بغداد وأربيل.
جغرافية المنطقة وأهميتها
يحد نهر دجلة الآتي من أعالي جبال طوروس التركية، منطقة فيشخابور من ثلاثة اتجاهات، محوّلاً إياها إلى مثلث طبيعي قاعدته تلال صغيرة أعلاها كنيسة موغلة بالقدم تسمى كنيسة مريم العذراء أو "حافظة الزروع" ودير للراهبات، وتحد المنطقة من الجنوب سورية، ومن الشمال الغربي تركيا، فيما تبعد عن الموصل 110 كيلومترات وعن دهوك نحو 70 كيلومتراً.
يقطن فيها عشرات الآلاف من العراقيين، غالبيتهم من الآشوريين الذين تمكّنوا من الحفاظ على لغتهم وثقافتهم على الرغم من تحوّل الموقع الجغرافي لمدينتهم إلى لعنة تحيط بهم، عرّضتهم في السنوات الماضية إلى عملية تكريد تمثّلت بتغيير ديموغرافي من قبل الحزب "الديمقراطي الكردستاني" الذي يتزعمه مسعود البارزاني عبر جلب عائلات كردية وإسكانها في المنطقة.
بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، خضعت المنطقة لسيطرة البشمركة الكردية بشكل كامل، التي تجاوزت بذلك حدود إقليم كردستان التي رسمها قرار مجلس الأمن الدولي عام 1991 القاضي بفرض منطقة حظر جوي على العراق في محافظات دهوك وأربيل والسليمانية تحت عنوان "حماية الأكراد من اضطهاد نظام صدام حسين".
وتمتلك المنطقة معبرين مع تركيا يُعدّان النافذة البرية بين العراق وتركيا، وهما إبراهيم الخليل ومعبر آخر صغير مغلق منذ نحو 27 عاماً يُعرف أيضا باسم فيشخابور. وفيها تمر شبكة خطوط النفط العراقية المتجهة إلى ميناء جيهان التركي، وتوجد فيها أيضاً مراكز للرصد والرادار، وتحوي قاعدة صواريخ متطورة شيّدها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين خلال الثمانينيات وتسبّبت حينها بأزمة مع أنقرة وكذلك مع نظام الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، إلا أن العراق رفض إغلاقها وهي حالياً تُستخدم كمقر تدريب عسكري لقوات البشمركة. وتستولي أربيل على عائدات المنفذ التي تقدر بنحو نصف مليار دولار سنوياً، وهو ما تعتبره بغداد مخالفاً للدستور.
الوضع الراهن
اليوم تحشد القوات العراقية في تلك المنطقة بواقع ستة ألوية عسكرية إضافة إلى فصائل من مليشيات "الحشد الشعبي"، وذلك للأسبوع الرابع على التوالي بانتظار أوامر الحكومة، بعد هدنة تمت برعاية الأمم المتحدة والأميركيين بين الجيش العراقي والبشمركة، على أمل التوصل إلى حل سلمي يجنّب الطرفين القتال.
وتصر بغداد على دخول فيشخابور وفرض ما تصفه بـ"هيبة الدولة" وسلطتها على المنطقة ونشر القوات الاتحادية على الحدود وتسلّم ملف إدارة المنفذ، وهو ما تؤيده أنقرة أيضاً. بينما ترفض أربيل حتى الآن إقصاءها من ملف المدينة وتطالب بمشاركة لها في عملية إدارة الحدود والمنفذ الحدودي، في ظل حشد الآلاف من أفراد البشمركة على أطراف المدينة. وحول المدينة حُفرت الخنادق ورُفعت السواتر الترابية، وسط نهايات غير معروفة لأزمة المنطقة، بين صدام عسكري يُتوقع أن ينتهي بسيطرة بغداد عليها، أو حل سياسي سلمي يؤدي إلى إدارة المنطقة بالشراكة بين أربيل وبغداد.
وتؤكد مصادر أمنية عراقية أن الوضع في فيشخابور على حافة الانفجار، موضحة لـ"العربي الجديد"، أن القوات العراقية تسيطر على المعبر، فيما تتمركز قوات البشمركة الكردية في بقية أنحاء البلدة. وتشير المصادر إلى أن الجيش العراقي يخشى من تسيير دورياته في شوارع فيشخابور خشية تعرضه للاستهداف من قبل مسلحين أكراد، كما حدث في كركوك والمناطق المتنازع عليها في أوقات سابقة، لافتة إلى أن مهمة القوات العراقية تقتصر على السيطرة على المنفذ الحدودي تنفيذاً لقرارات الحكومة التي سحبت يد سلطات إقليم كردستان من إدارة المنافذ الحدودية.
وتتهم الحكومة العراقية الأكراد بتهريب النفط من خلال منفذ فيشخابور، إلى مافيات وشبكات تهريب نفط تستخرجه من سورية والعراق من آبار نفط مهجورة أو مدمرة بفعل احتلال تنظيم "داعش" السابق لها. ويؤكد رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية، واثق الهاشمي، المقرب من الحكومة، أن عمليات تهريب النفط التي تجري من خلال المنفذ تتم لحساب رئيس إقليم كردستان السابق مسعود البارزاني وعائلته.
من جهتها، قالت صحيفة "فورين بوليسي" الأميركية إن الواقع السياسي والاقتصادي لإقليم كردستان بعد استفتاء الانفصال لن يكون بخير، معتبرة أن سيطرة القوات العراقية على أنابيب النفط الممتدة عبر منفذ فيشخابور ضمن لبغداد نفوذاً اقتصادياً كان قد خرج عن سيطرتها منذ سنوات حين استغلت حكومة كردستان الظرف الأمني غير المستقر في العراق لتقوم بعمليات واسعة لتهريب النفط. وأشارت إلى أن سيطرة العراق على فيشخابور منحت الحكومة في بغداد قدرة أكبر على الحد من عمليات تهريب النفط.
ويبعث التوتر الذي يسود فيشخابور على القلق بسبب وجود آلاف المدنيين الذين يسكنون بلدة فيشخابور من المسيحيين والأيزيديين. وطالبت منظمة "سورايا للثقافة والإعلام" الحكومة العراقية بتوفير الحماية لسكان فيشخابور الأصليين من المسيحيين والأيزيديين، موجّهة في بيان، الدعوة للمجتمع الدولي والأمم المتحدة وممثل الاتحاد الأوروبي في العراق، للتدخّل وحماية البلدة التي تضم مخيماً للنازحين الأيزيديين الذين فروا بعد اجتياح تنظيم "داعش" لمناطقهم عام 2014. وأشارت المنظمة إلى أن البلدة التي تسكنها آلاف الأسر من المسيحيين والأيزيديين قد تتحول إلى ساحة حرب، لافتة إلى وجود مخاطر على مستقبل السكان هناك واحتمال تسبب أي مواجهات مقبلة بتشريدهم، محذرة من كارثة إنسانية في حال استمر الصمت بشأن ما يجري في فيشخابور.