في التاسع من يوليو/تموز من كل عام يحتفل الجنوبيون بالانفصال عن السودان، إلا أنهم لم يهنأوا بالاحتفال بتلك الذكرى سوى لعام واحد، بعد اندلاع الحرب الأهلية في عام 2012، عقب اتهام الرئيس الجنوبي سلفاكير ميارديت نائبه المقال رياك مشار، وقيادات من "الحركة الشعبية"، بتدبير محاولة انقلابية ضده. وهي خطوة جاءت بعد توتر العلاقات بين الطرفين وإقالة سلفاكير لنائبه وقيادات الحركة من الحكومة والحزب، وتشكيل حكومة وقيادة حزبية جديدة.
وقد أعلنت حكومة جوبا منذ وقت مبكر تعليق الاحتفالات بعيد الاستقلال هذا العام بسبب الأزمة الاقتصادية، إذ سبق أن كلّفت الاحتفالات في أعوام سابقة نحو مليوني دولار، وإن كان مراقبون يرجّحون أن تكون التوترات الأمنية وحدها ما أعاق الاحتفالات.
يقف الجنوب حالياً على شفير حرب جديدة، بعد تزايد الاحتكاكات بين قوات المعارضة المسلحة بقيادة مشار والجيش الحكومي في جوبا وعدد من الولايات الجنوبية. وكان آخرها، الاشتباك الذي وقع بمحيط القصر الرئاسي في جوبا، يوم الجمعة، وتزامن مع اجتماع لمؤسسة الرئاسة جمع سلفاكير مع مشار، لمناقشة التوترات الأمنية بين القوتين التي تمت خلال فترات ماضية. وقد وقعت الاشتباكات بين الحرس الرئاسي لكل من سلفاكير ومشار، بشكل مشابه لأحداث وقعت قبيل اندلاع الحرب الأهلية في ديسمبر/كانون الأول 2013، التي بدأت باشتباكات داخل صفوف الحرس الرئاسي، تُوّجت في النهاية باتفاق سلام هشّ وقّعه الطرفان في أغسطس/آب الماضي.
ووفقاً للمعلومات فإن "مجموعة نافذة داخل الجيش والحكومة كانت تخطط لنسف عملية السلام بإعادة الدولة للحرب واعتقال مشار، ولا سيما أن قيادات في الجيش أكدت أكثر من مرة رفضها لاتفاقية السلام، مبدية مقاومة لها. كما يوجد مجموعات داخل حركة مشار ترفض السلام. ووسط كل هذا، فشل كل من سلفاكير ومشار في السيطرة على قواتهما".
وفي تصريحات سابقة، اعترف السكرتير الصحافي للرئيس الجنوبي ويك اتينج، بوجود مجموعات وعصابات خارج سيطرة الحكومة في جوبا، وهي من تقوم باغتيالات واستفزازات للقوات المعارضة في المدينة، فضلاً عن المواطنين.
ووفقاً لمعلومات من داخل مجموعة المعارضة، فإن "الأخيرة تتعامل مع الوضع في الجنوب كحالة حرب". وتشير مصادر لـ"العربي الجديد"، إلى أن "القوة المعارضة تتأهب للخروج من جوبا في أية لحظة، لا سيما أنها حصّنت نفسها بالوجود خارج المدينة، ووضع زعيمها مشار خارج العاصمة، كنوع من التأمين والحماية ولمواجهة أي طارئ".
من جهته، ينوّه وزير الاعلام الجنوبي مايكل مكواي، إلى أن "أحداث الجمعة وقعت بين الحرس الرئاسي خارج مبنى القصر الرئاسي"، مضيفاً في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الحكومة نجحت في السيطرة على الوضع بعد الاشتباكات وتهدئته، وشكّلت لجنة تحقيق في الحادثة". ويُشدّد مكواي على "حرص الحكومة على السلام وعدم نيتها في العودة لمربع الحرب".
وجاءت أحداث الجمعة متزامنة مع سلسلة أحداث اشتبكت خلالها القوة المعارضة مع الجيش الحكومي في مواقع مختلفة في العاصمة، وأدت لمقتل جنود من الطرفين. كما زادت من حدة التوتر والاحتقان في ظلّ الاشتباكات المتفرقة بين الطرفين في عدد من المدن، من بينها واو وملكال والوحدة، وسط تبادل الطرفان الاتهامات باستفزاز كل طرف لقوات الآخر.
ويُشكّل حصاد خمسة أعوام من الانفصال حسابات خسارة بالنسبة لدولتي السودان وجنوب السودان، إذ أثّر سلباً في استقرار البلدين، وفاقم من أزماتهما الاقتصادية، بعد وصول أسعار الدولار لأرقام قياسية أمام العملة المحلية. كما انتشرت الحروب ولو بنسب متفاوتة بين السودان وجنوب السودان، وشرّدت ما يزيد على مليوني شخص ومقتل نحو عشرة آلاف شخص، وإدخال الدولة في أزمة إنسانية ومجاعة. ويرى مراقبون أن الأوضاع في جنوب السودان ستنتهي به نحو الوصاية الدولية أو الإقليمية، ولا سيما أن إرهاصات العودة إلى مربع الحرب باتت الأقرب.
ويعتقد المحلل السياسي الطيب زين العابدين، أن "التطورات التي طاولت دولتي السودان وجنوب السودان بعد الانفصال أغلبها سلبية". ويؤكد في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الجنوب انتقل بسرعة شديدة نحو حرب عرقية بين الدينكا والنوير وبعض القبائل الصغيرة الأخرى، في حرب دموية شرسة قائمة على الهوية". ويوضح أن "تلك الحرب جعلت أكثر المؤيدين للانفصال يندمون عليه، خصوصاً جماعات الضغط الأميركي"، مؤكداً أن "تطورات الأحداث ضيّعت فرحة الجنوبيين بالانفصال وبددت أحلامهم فيه".
ويرى زين العابدين أن "الوضع في الجنوب ما زال مهدداً بالحرب، فالخطوات السياسية ليست بالدرجة التي تمنع وقوعها". أما بالنسبة للسودان فيعتبر أن "وضعه لا يختلف كثيراً عن الجنوب، إذ عانى بعد الانفصال سياسياً واقتصادياً، ولا سيما بفعل تحوّل إيرادات النفط إلى الجنوب، بجانب العزلة التي دخل فيها. وذلك على الرغم من أن توقعات الشمال كانت تتمحور حول حصوله على دعم خارجي بعد تحقق السلام". ويضيف بأن "الشمال لم يحصل على شيء من ذاك القبيل، بل حصد وضع متدهور على كل الأصعدة. وهو ما قاد النظام للدعوة للحوار الوطني لإنقاذ ما يمكن إنقاذه".
أما السياسي الجنوبي دينق قوج، فيؤكد لـ"العربي الجديد"، أن "خيار الجنوبيين بالانفصال تمّ بآمال عريضة وتوقعات ضخمة، لتغيير مسار حياتهم من الحرب والفقر وعدم الاستقرار إلى الرفاهية والنعمة والاستقرار. وذلك بالنظر إلى وعود القيادة الجنوبية في هذا الشأن". ويردف أن "هذا لم يحدث لعوامل كثيرة أهمها غياب برنامج واضح لإدارة مرحلة ما بعد الاستقلال، وغياب الارادة السياسية لمواجهة المشكلات الطارئة، لا سيما الصراع الداخلي داخل السلطة والحزب الحاكم".
ويرى قوج بأن "الذكرى الخامسة للانفصال تمرّ على البلاد وشبح الحرب ما زال يخيّم عليها، واتفاقية السلام قاب قوسين من الانهيار"، معتبراً أن "الشعب الجنوبي سأم من الحرب والعنف، ما يجعل التحدّي أمام القيادة في التحلّي بالحكمة وبثّ الطمأنينة ووقف أي إرهاصات تقود إلى الحرب".
شعور غريب ينتاب بعض الجنوبيين الذين لجأوا إلى الخرطوم أيام الحرب، بعد أن تبدّدت أحلامهم في الانفصال وعادوا لمربع الصفر، ولكنهم هذه المرة عادوا كأجانب، تلاحقهم نظرات بعض الشماليين وسخريتهم من النسبة العالية التي صوتت لمصلحة الانفصال.
وأبدت ميرا ردة فعل لا مبالية، عندما علمت بالاشتباكات في جوبا، فكان ردّها "خليهم يحرقوا كلمهم" (يحرقوا بعضهم البعض)، مؤكدة أنها "لا تعلم إن كانت أخطأت عندما صوّتت للانفصال، خصوصاً أنها الآن لا تعرف مصيرها، فضلاً عن مصير بلدها". وتعتبر بأن "ذكرى الانفصال مطحونة بالحنظل (المرّ)".
أما مايكل فيرى بأن "خيار الانفصال كان الأفضل، خصوصاً أنه وحّد الجنوبيين للمرة الأولى في تاريخهم"، لكنه يعتبر بأن "المسؤولية تقع على عاتق قادة الحركة الشعبية من دون استثناء، باعتبار أنهم لم يستثمروا ذاك الإجماع لمصلحة بناء دولة قوية، والتفتوا لصراعاتهم وأطماعهم في السلطة والثروة وبددوا أحلام الجنوبيين". ويؤكد أن "جوبا بحاجة لقيادة جديدة".
وكان الجنوب قد انفصل عن شمال السودان وفقاً لاتفاقية السلام الشامل التي وقعتها الحكومة في الخرطوم مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق في عام 2005، بعد مفاوضات مضنية استمرت أكثر من سبعة أعوام. وفشل الطرفان خلال الفترة الانتقالية التي تشاركا فيها الحكم في جعل خيار الوحدة جاذباً للجنوبيين الذين صوّتوا بما يزيد على نسبة 98 في المائة لخيار الانفصال التي حاولت بعض قيادات الحركة الترويج له باعتباره الخيار الأفضل.