وجاء قرار المديرية العامة للجمارك التابعة للنظام في سورية في الـ19 من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، بإلقاء الحجز الاحتياطي على أموال رامي مخلوف المنقولة وغير المنقولة بهدف ضمان تسديد مبلغ 1.9 مليار ليرة سورية (نحو 2 مليون دولار وفق سعر الصرف الحالي لليرة) على خلفية "الاستيراد تهريباً لبضاعة ناجية من الحجز"، بعد معلومات راجت في أغسطس/آب الماضي بشأن وضع مخلوف وبعض أفراد عائلته قيد الإقامة الجبرية في دمشق، بسبب تقاعسه، وفق ما جرى تداوله آنذاك، عن دفع مبلغ ملياري دولار طلبه منه النظام ليدفعه إلى روسيا، كجزء من فاتورة الحرب المترتبة على النظام.
كما تداولت مواقع سورية في سبتمبر/أيلول الماضي، أنّ ما يسمى بـ"المكتب الاقتصادي" التابع للفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق رأس النظام، بات يتولى إدارة المناطق والأسواق الحرة في المنافذ الحدودية والمطارات بعد عزل إيهاب مخلوف، مديرها السابق وشقيق رامي مخلوف.
وعلى الرغم من أنّ الحجز الاحتياطي هو إجراء احترازي لضمان استعادة أموال مستحقة لخزينة الدولة وإلى حين تسديد المبلغ المطلوب، وعلى الرغم من أنّ هذا المبلغ (1.9 مليار ليرة) هو ضئيل جداً قياساً بثروة مخلوف، إلا أنّ أهمية القرار تكمن في أنه الأول من نوعه الذي يتخذ علناً ضدّ أهم واجهة مالية للنظام، بعد سلسلة إجراءات اتُخذت ضدّ بعض شركات مخلوف أو مؤسساته خلال الأشهر الأخيرة.
وجاء الحجز الاحتياطي على أموال مخلوف، بعد أقل من أسبوعين على حجز مشابه بحقّ رجل الأعمال طريف الأخرس، عم أسماء الأسد زوجة بشار، لكن سرعان ما تمّ رفعه، بعدما قيل إنّه سدّد المبالغ المترتبة عليه لخزينة الدولة. وكذلك رجل الأعمال محمد حمشو الذي تعهّد أن يسدّد لخزينة النظام نحو مائة مليون دولار، بعد اتهامه بالتلاعب بعقود مع وزارة التربية السورية، فيما أعلن رجل الأعمال المقرب من النظام، سامر فوز، عن "تبرعه" بمبلغ 10 ملايين دولار لدعم الليرة السورية المتدهورة.
كذلك الأمر بالنسبة لرجل الأعمال أيمن الجابر، الذي أعلنت وزارة مالية النظام الحجز الاحتياطي على أمواله "بحكم الاستيراد تهريباً لبضاعة ناجية من الحجز"، وهي التهمة نفسها التي وُجّهت إلى رامي مخلوف. والجابر هو مؤسس مليشيا "صقور الصحراء" ومليشيا "مغاوير البحر"، وصاحب مصنع للبراميل المتفجرة. وهو متزوج من ابنة كمال الأسد، ابن عم رئيس النظام بشار الأسد. لكنه، كحال رامي مخلوف، يخضع للمرة الأولى لمساءلة قانونية، وذلك في إطار عمل ما سمي "لجنة مكافحة غسل الأموال" التي تترأسها أسماء الأسد، والتي باشرت بالتحقيق مع 28 رجل أعمال، بحسب مصادر محلية سورية، وفق سيناريو مشابه إلى حدّ ما لعملية فندق "ريتز كارلتون" في السعودية.
ورامي مخلوف ابن محمد مخلوف خال بشار الأسد، هو من مواليد 1969، ويعتبر أكبر شخصية اقتصادية في سورية، وكان المالك الرئيسي لشبكة الهاتف المحمول "سيريتل"، ولديه استثمارات في قطاعات الاتصالات والنفط والغاز والتشييد والخدمات المصرفية، وشركات الطيران والتجزئة. وتقول مصادر سورية متطابقة، إنه لا يمكن لأي شخص سوري أو غير سوري، ولا لأي شركة، القيام بأعمال تجارية في سورية من دون موافقته ومشاركته. وقُدّرت ثروته عام 2008 بنحو 6 مليارات دولار أميركي، وخضع اعتباراً من الشهر الخامس من عام 2011، أي بعد شهرين من اندلاع الثورة السورية، لعقوبات من قِبل الاتحاد الأوروبي بسبب دوره في تمويل النظام، ثمّ تعرّض لعقوبات أميركية.
ومما تمّ تداوله كأسباب محتملة لتحركات النظام الأخيرة ضدّ رامي مخلوف وعائلته، ما أوردته بعض وسائل الإعلام الروسية (وتحديداً موقع نيوز ري)، بأنها تأتي في سياق إعادة توزيع لمجالات النفوذ داخل محيط عائلة الأسد، ومن غير المستبعد أن يكون رأس النظام قد قرّر القضاء على منافس محتمل على السلطة، بحسب الموقع. وفي السياق ذاته، تحدثت مصادر إعلامية سورية عن اكتشاف نظام الأسد عملية تنسيق تجري بين محمد مخلوف والروس، لتسلّم ابنه رامي السلطة في المرحلة الانتقالية بدلاً من بشار الأسد، وهو ما دفع بالأخير لوضع ابن خاله قيد الإقامة الجبرية، فيما غادر محمد مخلوف وابنه إيهاب سورية إلى روسيا. وحسب هذه المصادر، فإنّ القصر الجمهوري التابع للنظام، نشر مجموعة من الروايات للتغطية على القصة الحقيقية، مثل أنّ رامي مخلوف رفض دفع فاتورة الحرب المقدرة بثلاثة مليارات دولار، أو أنّ العملية هي مكافحة فساد وستطاول الجميع.
من جهة أخرى، يرى البعض أنّ الأمر قد يكون مجرّد مناورة من الأسد لاستبدال رجال الأعمال الذين يعتمد عليهم النظام بآخرين، لم تُفرض عليهم عقوبات خارجية. وفي السياق، قال مصدر مطلع لـ"العربي الجديد" من داخل سورية، له صلة بالدوائر الاقتصادية للنظام، إنّ إمكانية الدفع بأسماء جديدة تتولى خدمة الأخير بدل الأسماء "المحروقة"، أي التي فُرضت عليها عقوبات دولية، أمر وارد، ليس فقط بهدف محاولة النفاذ من الدائرة المغلقة التي بدأت تضيق على النظام، خصوصاً بعد صدور قانون "قيصر" في الولايات المتحدة، لكن أيضاً لمحاولة إكساب النظام بعض الثقة المفقودة به من رجال أعمال سوريين وعرب ربما يفكرون بالاستثمار في سورية خلال المرحلة المقبلة، لكنهم يترددون في ذلك بسبب وجود هؤلاء "الحيتان"، وعلى رأسهم رامي مخلوف الذي يعمل عنوة، مدعوماً بعلاقاته التشاركية مع النظام وأجهزته الأمنية، لمشاركتهم في مشاريعهم وأرباحهم داخل سورية، وفق المصدر.
وفي كل الأحوال، وعلى الرغم من الضجيج الإعلامي الذي يتناول منذ أشهر العلاقة المتوترة بين النظام وعائلة مخلوف، وما تخلل ذلك من عمليات تدقيق في حسابات شركة "سيريتل" للاتصالات، ووضع اليد على إدارتها، وتحجيم "جمعية البستان" التابعة لرامي مخلوف وحلّ المليشيا المسلحة التابعة لها، يذهب كثير من التوقعات إلى أنّ ما يقوم به النظام هو جباية سريعة لبعض المستحقات التي يمتنع رجال أعمال النظام عن تسديدها، لاعتقادهم بأنهم فوق مستوى هذه التجاوزات "البسيطة" قياساً إلى الخدمات الكبيرة التي قدّموها للنظام، بما في ذلك تمويل مليشيات مسلحة تقاتل معه، ولا ينبغي تالياً التعامل معهم بمنطق تجاري بحت.
كما أنّ هذه الخطوة، أي قوننة العقوبة والإعلان عنها، على الرغم من أنّ النظام عادة ما يحصّل الأموال من أي جهة محلية بطرق الضغط والتهديد والتشبيح، تأتي لمصلحة رجال الأعمال هؤلاء، لأنها تعني تبييض صفحتهم لدى المجتمع المحلي بمجرد أن يدفعوا هذه المبالغ. تُضاف إلى ذلك محاولة ترميم شرعية النظام الاقتصادية، عبر الإيحاء بأنّ سبب الأزمات التي تمرّ بها البلاد هو تقاعس بعض رجال الأعمال عن تأدية واجباتهم تجاه الدولة، واستغلالهم الظروف لتحقيق مصالحهم الخاصة، في محاولة من النظام للنأي بنفسه عن تلك السلوكيات، التي هو في الحقيقة جزء منها، والفاعل الرئيسي فيها.
ومن المرجح أن يتم تسيير قضية حجز أموال رامي مخلوف وفق سيناريو مشابه لقضيتي طريف الأخرس ومحمد حمشو، أي أن يتم رفع الحجز الاحتياطي مقابل تسديد المبلغ المطلوب، بما يعني "شرعنة" بقية الأموال التي يملكها مخلوف بعد "تطهيرها" من الفساد، وذلك في ضوء ارتفاع الأصوات داخل حواضن النظام الاجتماعية التي تطالب بمحاربة الفساد، على وقع تدهور قيمة العملة المحلية، والتردي الاقتصادي الذي تعيشه البلاد.
والرسالة التي أراد النظام إيصالها أيضاً، هي أنّ زمام المبادرة ما زال بيد "الدولة" وأنها قادرة على محاسبة جميع المتورطين بالفساد، بغض النظر عن مدى قربهم من النظام أو العائلة الحاكمة.
لكن في كل الحالات، لا شكّ أنّ النظام يعاني من ضائقة مالية كبيرة، وهو بحاجة فعلية إلى الأموال التي جناها بعض رجال الأعمال ممن عملوا خلال السنوات الماضية في كنف النظام خارج القانون والمحاسبة، وجرى تهريب نسبة كبيرة من أموالهم خارج البلاد، بما يصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، ما يعني أنها باتت بعيدة عن قبضة النظام، بل وباتت معرضة للمساءلة، وربما العقوبات، خصوصاً بعد صدور قانون "قيصر" في الولايات المتحدة. لذلك يلجأ النظام إلى محاصرة ما تبقى من أموال داخل البلاد، ومحاولة إعادة تدوير أموال رجال الأعمال "الفاسدين" ونقلها إلى مستثمرين جدد غير مثقلين بالعقوبات الدولية، أو بالسمعة السيئة داخل البلاد. كما أنّ النظام يسعى إلى وضع يده على الأموال السورية التي سحبت أخيراً من مصارف لبنان، ولم يتمكن أصحابها من تهريبها إلى الخارج، وفق بعض المصادر السورية.