تسود أوساط اليمين الفرنسي المحافظ حالة من الهلع الشديد، من الوجهة التي يتخذها مسار الحملة الانتخابية للرئاسيات المقبلة. فبعد أن كان هذا اليمين، الملتف حول مرشح حزب "الجمهوريون" فرانسوا فيون، شبه متأكد أن نتيجة الاقتراع الرئاسي ستُحسم لصالحه، بالنظر إلى منطق التداول السياسي، الذي يرجح دائماً كفة المعارضة في مواجهة الحزب الحاكم، وبسبب انحسار شعبية الحزب الاشتراكي وضعف مرشحه بونوا هامون، وضعت استطلاعات الرأي المتتالية فيون في مرتبة ثالثة، بعيداً خلف مرشحة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، مارين لوبان والمرشح الوسطي وزير الاقتصاد الاشتراكي السابق، إيمانويل ماكرون.
وجاء الاستطلاع الأخير لشهر فبراير/شباط الحالي، الذي أنجزته مؤسسة "سوفريس" لصالح صحيفة "لوفيغارو" وقناة "إل سي إي" وإذاعة "إرتي إل"، ليدق المسمار في نعش آمال اليمين التقليدي. وأظهر الاستطلاع أنه، للمرة الأولى في فرنسا، لن يكون هناك حضور، لا للمرشح اليميني ولا الاشتراكي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. وحل فيون ثالثاً بنسبة 20 في المائة في الدور الأول، خلف ماكرون الذي حصل على نسبة 25 في المائة، في حين تواصل لوبان تصدرها الترتيب بنسبة 27 في المائة. وأظهر الاستطلاع الدينامية التي تتمتع بها شخصية ماكرون، الذي تعزز موقعه، أخيراً، بعد أن أعلن زعيم حزب الوسط اليميني، فرانسوا بايرو التحالف معه بدل دعم مرشح اليمين المحافظ. كما أظهر الاستطلاع القوة المتصاعدة لمرشحة اليمين المتطرف، التي باتت متأكدة من مرورها للدور الثاني، رغم الشكوك القضائية التي تحوم حولها، واحتمال تورطها في قضايا توظيف وهمية في البرلمان الأوروبي. وحسب هذا الاستطلاع فإن الرابح الأكبر إذا استمرت الأمور على ما هي عليه هو ماكرون، الذي إن تمكن من الفوز في الدورة الأولى فسيحصد أصوات الناخبين الاشتراكيين واليمينيين في الدورة الثانية، ويفوز في مواجهة لوبان بنسبة كبيرة، تُذكِّر بالنجاح الساحق للرئيس السابق، جاك شيراك، في مواجهة لوبان الأب، في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية عام 2002، التي شهدت إقصاء المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان في الدور الأول.
هكذا هي إذن الأوضاع حالياً في صفوف اليمين المحافظ، هشاشة كبيرة وخشيةٌ شديدة من إقصاء مبكر للمرشح فيون في الدور الأول. فيون الذي هوى من علٍ في وقت قياسي، بسبب فضيحة الوظيفة الوهمية لزوجته والتدبير الإعلامي السيئ للقضية. وفي مواجهة شبح الهزيمة المحتملة، يحاول اليمين المحافظ استجماع قوته واستعمال كل الوسائل الممكنة لمنح دينامية جديدة لحملته الانتخابية. ولأن أفضل طريقة للدفاع في السياسة هي الهجوم، فقد شحذ فيون كل الأسلحة الممكنة للهجوم على خصومه. ومن هنا الاتهام الغريب والمبالغ فيه الذي أطلقه، ليل أول من أمس، في اتجاه الحكومة الاشتراكية التي اتهمها "بإشاعة أجواء من الحرب الأهلية في البلاد"، بعد أن كان اتهمها في وقت سابق بالوقوف وراء فضيحة التوظيف الوهمي. وقال فيون، أمام تجمع انتخابي، "إنني اتهم رئيس الوزراء والحكومة بالتقصير في توفير شروط آمنة للممارسة الديمقراطية. وهما يتحملان مسؤولية ثقيلة جداً في تدهور الأوضاع وإشاعة أجواء شبيهة بأجواء الحرب الأهلية، التي لا يستفيد منها سوى المتطرفين، يميناً ويساراً".
والواقع أن فيون صار يضيق ذرعاً بالهجمات التي يتعرض لها خلال تنقله في الفضاء العام، بسبب فضيحة التوظيف الوهمي، وقيام بعض المناصرين لخصومه بإثارة "بعض الاضطرابات" خلال المهرجانات الخطابية لحزبه. غير أن هذه الحوادث المتفرقة، بإجماع المعلقين السياسيين، تبقى محدودة جداً ولا تتجاوز حدود الممارسة الديمقراطية. وأثار هذا التصريح جدلاً كبيراً في وسائل الإعلام، أمس الإثنين، إلى حد أن رئيس الوزراء الاشتراكي، برنار كازنوف، اضطر للرد. واعتبر أن "استخدام تعبير الحرب الأهلية من طرف مرشح للرئاسة يعكس انعدام الحس بالمسؤولية، رغم أنني أتفهم أن بعض المرشحين يلجأون إلى إثارة الجدل بالتصريحات الاستفزازية من أجل إخفاء عيوبهم والصعوبات التي تواجههم". والواقع أن فيون بإثارته المفتعلة للجدل حول "الحرب الأهلية" فإنه، على الأقل، يشغل وسائل الإعلام ويجعلها "تنسى" تداعيات فضيحة التوظيف الوهمي، ولو لبعض الوقت.
ويحاول المرشح اليميني استعادة ثقة الناخبين المحافظين، في ظل عجزه عن استقطاب الثقة خارج الدائرة الحزبية، كون هؤلاء الناخبين المحافظين مفتاحه الضروري للمرور إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية. كما يحاول فيون أن يقنع الناخبين اليمينيين، ذوي الميول الوسطية، بعدم الانجرار وراء الزعيم الوسطي، فرانسوا بايرو، الذي يتهمه "بالطعن في ظهره" بعد إعلانه دعم ماكرون. ولهذا الغرض سيتحرك فيون بكثافة، طيلة هذا الأسبوع، ويضاعف من التجمعات الانتخابية في معاقل اليمين. وسيحاول التركيز على برنامجه الانتخابي واقتراحاته في مجالات الأمن ومحاربة البطالة وإصلاح العدالة والنظام الضريبي. ويعتقد فيون أن الهجمات التي يتعرض لها، بما فيها فضيحة التوظيف الوهمي، تشوش على برنامجه الانتخابي الذي يعتبره متكاملاً ومنسجماً، بالنظر إلى خصمه ماكرون مثلاً الذي يعتبره "مرشحاً من دون برنامج"، أو لوبان التي يعتبر برنامجها مجرد "أفكار شعبوية لا حظ لها في التطبيق". وأمس الإثنين، وفي إطار محاولة كسر الدائرة السلبية التي يتخبط فيها فيون، حصل على دعم من ائتلاف من المثقفين ورجال الأعمال، الذين عبروا عن مساندتهم برنامجه الانتخابي، في عريضة نشرتها صحيفة "لوفيغارو" ذات التوجه اليميني المحافظ. واعتبر هؤلاء أن فيون "وحدَهُ من يستطيع ضمان الحرية الاقتصادية في حال وصوله إلى سدة الرئاسة، ووحده القادر على تحقيق التقدم الاجتماعي ومحاربة البطالة". وتعتبر هذه العريضة بمثابة رد مباشر على الدعم الكبير الذي يلقاه إيمانويل ماكرون في أوساط رجال الأعمال والأوساط المالية، خصوصاً الشباب منهم.