ألقت الأحداث المرتبطة بمصر، أول من أمس، حجراً في مستنقع السياسة المصرية الراكد، قبل 3 أشهر من الموعد المحدد دستورياً لبدء إجراءات انتخابات الرئاسة، غير المحسوم إجراؤها حتى اللحظة. فبدءاً من ظهور المرشح الرئاسي ورئيس الوزراء الأسبق، أحمد شفيق، عبر وكالة "رويترز"، وإعلانه رغبته بالترشح للرئاسة وتوجيه مقطع فيديو عبر صفحته الخاصة إلى الشعب المصري مدته 6 دقائق، إلى إصدار الرئيس المخلوع، حسني مبارك، بياناً ينفي فيه قبوله بتوطين الفلسطينيين في سيناء، إلى ظهور ثانٍ لشفيق عبر قناة "الجزيرة"، وإعلانه أنه ممنوع من السفر ومحتجز في الإمارات، إلى صدور تصريحات إماراتية رسمية تتهمه بنكران الجميل، كلها أحداث ذات طبيعة متفردة، لم تجتمع في شهر، وربما عام، من حكم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وما زاد هذه الأحداث غموضاً وجود روابط منطقية بينها جميعاً، إلّا أن تفاصيلها غير معروفة بالتحديد، سواء للمراقبين أو للمصادر السياسية المفترض أنها لصيقة بصناع تلك الأحداث. فشفيق لم يتواصل بشخصه على مدار تلك الساعات المحمومة مع أي من قيادات حزبه، حتى الموجودين في الخارج، كاللواء رؤوف السيد، الذي ظهر مساء أول من أمس، على قناة "الحوار" المعارضة للنظام المصري، بينما التزم الإعلاميون المقربون من شفيق الصمت، وعلى رأسهم النائب عبد الرحيم علي.
شخصية واحدة زعمت أنها تلقت اتصالاً من شفيق، وهي المحامية دينا عدلي حسين، إحدى عضوات فريق المحامين الموكلين منه لمتابعة قضاياه في مصر وابنة المستشار عدلي حسين، محافظ القليوبية الأسبق في عهد مبارك والقاضي السابق في محكمة استئناف القاهرة. وأصدرت حسين بياناً، ثم مجموعة من التدوينات على صفحتها الشخصية على موقع "فيسبوك"، ذكرت فيها أن شفيق ليس محتجزاً من أول من أمس فقط، بل إنه محتجز في منزله بالإمارات منذ الجمعة الماضي بحجة حمايته، وأنه مُنع يومئذ من السفر إلى باريس. وأشارت إلى أن مقطع الفيديو الذي بثته "رويترز" كان بديلاً لعدم استطاعته السفر وإجراء حوار مع الوكالة هناك لإعلان ترشحه، وأن المقطع الذي بثته "الجزيرة" لم يكن مسجلاً خصيصاً لها ووصلها بشكل غير مباشر، وأن إحدى بناته هي التي قامت بتسجيله، وبثت على صفحتها نسخة من الفيديو لا تحمل أي إشارات أو شعارات، ما يعني أنه وصلها من ابنة شفيق مباشرة. وذكرت دينا أيضاً أنها حاولت التواصل مع فضائيات مصرية قريبة من مؤسسة الحكم، كانت تشن في التوقيت نفسه هجوماً على شفيق، إلّا أن محاولاتها باءت بالفشل، لعدم ترحيب تلك القنوات بمداخلات من أي طرف قريب لشفيق، ما يشي أيضاً برغبة رسمية مصرية في فرض رواية معينة لما حدث، تحول شفيق من مجني عليه إلى جانٍ، وتكرس الاعتقاد بالتناغم المطلق بين القاهرة وأبوظبي.
المعلومات الأخرى المتاحة، التي حصلت "العربي الجديد" عليها، من 5 مصادر مختلفة على صلة قريبة بشفيق ودائرة السيسي، توضح أن الاستخبارات المصرية علمت منذ شهر بأن شفيق مقبل على السفر إلى باريس لعقد مؤتمر يعلن فيه ترشحه للرئاسة في 22 أو 23 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، ثم يسافر بعده إلى الولايات المتحدة للقاء الجاليات المصرية في بعض الولايات التي يتمتع فيها بشعبية ومنحته أغلب أصواتها في انتخابات الرئاسة 2012. واستبقت الاستخبارات هذه الخطوة بتوجيه ضربة أمنية لحزب شفيق "الحركة الوطنية" بتفجيره من الداخل على مدار الأسبوع الماضي، إذ تم دفع بعض قيادات الحزب المهمين في محافظات الإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية لإعلان استقالاتهم من الحزب. والسبب المعلن هو تورط شفيق في علاقات وتنسيق مع جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت، وما زالت، خصماً أساسياً لشفيق منذ التنافس الشرس بينه وبين الرئيس المعزول محمد مرسي، في انتخابات الرئاسة لعام 2012، بهدف توجيه رسائل للإمارات بالحذر من شفيق، وإيهامها بوجود تنسيق بينه وبين الجماعة التي تعتبرها أبوظبي "إرهابية". وتواصلت بعض قيادات الحزب في مصر مع شفيق، وطلبت منه التواصل مع شخصيات نافذة في الجيش والاستخبارات لتخفيف الضغط على الحزب ووقف تلك الحملة، فأخبرهم شفيق بأنه لم يتلق وعوداً بأي تحرك إيجابي، وأنه تلقى رسائل واضحة بأنه شخصية غير مرغوب فيها بالقاهرة قبل إجراء انتخابات الرئاسة، وأن عودته "ربما" تكون ممكنة بعد الانتخابات، بتوافق مصري إماراتي.
المصادر المقربة من شفيق تعتبر تلك الأحداث، أو بالأحرى إحدى المحادثات التي جرت بين شفيق وشخصية كبرى بالجيش، هي السبب المباشر لتبكير إعلان رغبته في الترشح، لإلقاء الكرة في ملعب السيسي وإحراجه، وتحميله مسؤولية مباشرة في عدم تمكينه من العودة لمصر، وأيضاً لمساومته ليتمكن من العودة دون عوائق، أو على الأقل منحه بعض الوقت لتسوية المشاكل القضائية التي يحتفظ النظام بها في أدراج النيابة العسكرية والنيابة العامة بالتوازي مع التفاهم حول خوض الانتخابات من عدمه.
المصادر نفسها تؤكد أن التفاهمات السياسية بين السيسي والإمارات هي الحاكمة للسلاح القانوني الذي استخدم طوال الأعوام الماضية لتخويف شفيق من العودة، على خلفية اتهامه بعدد من القضايا أمام المحاكم ثم تبرئته منها. وقد وضع اسمه، باستمرار منذ عام، على قائمة ترقب الوصول للتحقيق بأمر النيابة العسكرية في قضيتي تحقيقه كسباً غير مشروع وإهدار المال العام في وزارة الطيران بين 2002 و2011. وكان جهاز الكسب غير المشروع قد أحال إلى النيابة العسكرية في 2013 بلاغات ضد شفيق، تنفيذاً لقانون صدر في عهد المجلس العسكري يجعل القضاء العسكري مختصاً بقضايا الفساد المالي للضباط السابقين بالقوات المسلحة. وتوضح المصادر أن هناك مجموعة أخرى من البلاغات لدى النيابة العامة قدمت ضد شفيق بين 2012 و2014 لم تبدأ تحقيقاتها بعد، ما يعني أن عودته إلى مصر لن تكون آمنة قبل أن يحصل على تعهدات واضحة من السيسي أو الجيش بعدم تحريك تلك القضايا، وإلا فالبقاء خارج مصر، سواء في الإمارات أو غيرها، سيكون أفضل لسلامته. وتؤكد المصادر المقربة من شفيق أن خطوة إعلان رغبته في الترشح تمت "بالتأكيد" بموافقة ومباركة إماراتية، بسبب عدم إقدام وكالة "رويترز" أو شفيق على نشر مقطع الفيديو المسجل، ومدته 6 دقائق، إلا بعدم ممانعة من الإمارات، على الأقل، أخذاً في الاعتبار أن الساعات التالية لنشر الفيديو لم تشهد تصريحاً واحداً من مسؤول إماراتي إزاء ما حدث.
لكن الغيوم المحيطة بظروف نشر الفيديو الثاني الخاص بتحميل الإمارات مسؤولية احتجاز شفيق، تبدو أكثر كثافة. فهذه الخطوة هي التي سمحت للإعلام المصري، الموالي للنظام، بتصعيد هجومه على شفيق واتهامه بالتعاون مع قناة ودولة قطعت مصر العلاقات معهما، وكذلك الإمارات، وهي التي جعلت شفيق يتحول في نظر البعض إلى بطل منتظر وقائد منفي محتجز لعدم تمكينه من منافسة السيسي. مصدر إعلامي مطلع ذكر، لـ"العربي الجديد"، أن الفيديو وصل إلى قناة "الجزيرة" عبر وكالة إعلامية رفضت إذاعته حفاظاً على علاقتها بالإمارات، وأن شفيق شخصياً لم يمانع بثه عبر "الجزيرة" لرغبته في سرعة عرضه من ناحية، ولأنه أيقن بعد رفض تلك الوكالة أن "الجزيرة" هي المؤسسة الوحيدة التي ستقبل بث ذلك الفيديو. بينما ذكر مصدر قانوني مقرب من شفيق في القاهرة أنه لم يكن يرغب في بثه بهذا الشكل، وأنه تسرب إلى "الجزيرة" عبر إعلاميين حصلوا عليه بعدما أرسله إلى الوكالة التي رفضت إذاعته، وأرسلوه بدورهم إلى "الجزيرة" لأهداف سياسية من دون رضاه.
ويعبر التناقض بين حديث المصدرين عن ندرة المعلومات المسيطرة على المشهد، وغلبة التحليل على المعلومة، في ظل استمرار غلق شفيق لهاتفه وامتناع بناته عن التواصل مع الإعلام. والتناقض ذاته ينطبق على مسألة مغادرة شفيق للإمارات، إذ قال مصدر من حزبه بالقاهرة إنه "سيعود إلى القاهرة خلال الأسبوع الأول من ديسمبر"، نافياً أن تكون الإمارات قد أبلغته بعدم رغبتها في بقائه على أراضيها، مرجحاً أن تكون عودة شفيق للقاهرة في هذه الظروف بمثابة نهايته السياسية في ظل استمرار التصعيد الإعلامي الإماراتي ضده. بينما ذكرت مصادر أخرى في تصريحات لوسائل إعلام مصرية قريبة من النظام، أن شفيق سيغادر الإمارات متوجهاً إلى باريس، وأنه سيمكث لفترة طويلة في دولة أوروبية أو في الولايات المتحدة.
وبناء على هذه المعطيات، من معلومات وترجيحات، يمكن تحليل ما حدث في 3 سيناريوهات محتملة: أول السيناريوهات أن يكون شفيق قد تحرك منفرداً من دون الحصول على موافقة إماراتية أو مصرية، سواء عليا أو من أجهزة داخل كل نظام، وأنه اضطر لذلك لرغبته في العودة لمصر، ولأنه منع بالفعل من مغادرة الإمارات، فلم يجد إلا هذه الطريقة للضغط على الطرفين والسماح له بالمغادرة، ريثما يستطيع مواءمة أوضاعه مع دولة أجنبية أخرى أو أجهزة مصرية، كالجيش والاستخبارات. هذا السيناريو تميل له الأوساط المصرية شبه الرسمية، الموالية للنظام. وتؤكد مصادر إعلامية عديدة أن التعليمات التي صدرت من الدائرة الخاصة بالسيسي، والتي يديرها مدير مكتبه عباس كامل، كانت صريحة بتأكيد توافق مصر والإمارات، وأن شفيق خرج عن الإطار المحدد له من قبل الدولة التي أقام في كنفها 5 سنوات، وأنه بذلك يسيء لهم قبل أن يسيء للسيسي.
السيناريو الثاني، أن تكون جميع تحركات شفيق بتوجيهات إماراتية. فمن ناحية لا يمكن تصور خروج الفيديو الأول من دون موافقة الإمارات، كما أن بث الفيديو الثاني عبر "الجزيرة" ليس خياراً مفضلاً بطبيعة الحال لشفيق بشخصه، ما يطرح احتمالية أن يكون جهاز استخباراتي إماراتي قد خطط ورسم كل هذه الأحداث للضغط على السيسي في بعض الملفات التي تثير خلافات بينه وبين حكام الإمارات، في الاقتصاد وليبيا تحديداً، وأن يكون البث في "الجزيرة" متعمداً وكذلك التصريحات الإعلامية ضده، لإعادة شفيق للمشهد السياسي بصخب دعائي، وتكريس صورته كقائد منتظر لمعارضة السيسي، وخلق قنوات اتصال بينه وبين تيارات معارضة أخرى في الخارج.
السيناريو الثالث هو أن يكون شفيق ضحية تفاهمات غير مباشرة بين الإمارات ومصر. فربما يكون قد حصل على مباركة أو تطمين من جهاز إماراتي قبل بث فيديو ترشحه، وتصور أن الطريق مفتوح أمامه لمغادرة أبوظبي إلى باريس ونيويورك ومباشرة نشاطه السياسي. إلا أن الساعات القليلة التالية لإعلان رغبته بالترشح شهدت تنسيقاً مصرياً إماراتياً لتأكيد عدم ترحيب السيسي به، فأثار هذا الأمر غضب شفيق، واندفع للعمل منفرداً لإحراج الدولتين معاً، وهو ما يعني أنه قضى على مستقبله السياسي بنفسه، أو على الأقل خفض بشدة احتمالات عودته للمشهد السياسي منافساً للسيسي.
مبارك في الخلفية
وقطع بيان للرئيس المخلوع، حسني مبارك، نشره على صفحة "احنا آسفين يا ريس" وصفحة خاصة بنجله علاء، أول من أمس، المشاهد المتعاقبة لشفيق، لينفي عن نفسه مزاعم موافقته على اقتراح أميركي سابق بتوطين الفلسطينيين في سيناء. ورغم أن البعض قد يجد أن الصدفة وحدها هي التي جمعت الحدثين، إلا أن مطالعة البند السادس من البيان تحديداً تشي بأن شيئاً ما يدور في خلفية المشهد المصري. فبعد 5 نقاط تحدث فيها مبارك عن نقاط سياسية وتقنية خاصة بما حدث بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي عام 2010، وقبل ذلك موقف مصر من الفلسطينيين بعد غزو إسرائيل للبنان، أفرد مبارك نقطة للحديث عن ذاته، مع إشارات لا تخطئها عين لسياسات السيسي. وكتب "تمسكت بمبدأ لم أحد عنه أبداً، وهو عدم التفريط بأي شبر من أرض مصر التي حاربت وحارب جيلي كله من أجلها، وهو ما تجسد في إصرارنا على استعادة آخر شبر من أرضنا المحتلة عام 1967 بعودة طابا كاملة إلى السيادة المصرية".
فاستخدام ألفاظ كـ"عدم التفريط"، و"حاربت وحارب جيلي"، و"إصرارنا على استعادة"، يرى مراقبون أنها تمثل استدعاءً لمشاعر المصريين الإيجابية تجاه دولة مبارك وجيل حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، والتي حارب فيها شفيق أيضاً تحت قيادة مبارك في سلاح الطيران، وإثارة تهدف للمقارنة بين ما كان عليه وضع الجيش في عهده، وما هو عليه الآن في عهد السيسي، فضلاً عن إثارة مقاربات أخرى بشأن "التمسك بالتراب الوطني" على خلفية تنازل السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير اللتين كان مبارك يصر على بقائهما تحت السيادة المصرية، وعارض شفيق أيضاً التخلي عنهما.