لا يهدأ الضجيج في لبنان، ولا ضجيج طوائفه بتحالفاتها وانقساماتها وحروبها، ومنها مسيحيو لبنان. معظم المراحل السياسية، واستطراداً العسكرية، لهؤلاء، كانت مليئة بالجنون والانقلابات المتلاحقة. وفي مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، بات معظم زعماء الأكثرية المسيحية خارج السلطة، سواء في المنافي أو في السجون. وتكرّست مداميك تلك السلطة بوجود عسكري سوري بتوافق دولي وإقليمي، وباحتلال إسرائيلي لجزء من الجنوب اللبناني. وبعد مسار دموي بدأ إثر اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، عاد رئيس الجمهورية الحالي، ميشال عون من المنفى في مايو/أيار من العام عينه، وخرج رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع من سجنه بعد 11 عاماً، في يوليو/تموز من العام عينه أيضاً. وبين عامي 2005 و2017 شهدت البلاد تحوّلات عدة. انقلبت التحالفات داخل الصفوف المسيحية، من ثنائية متماسكة بين التيار الوطني الحر (عون) وتيار المردة (النائب سليمان فرنجية) وثنائية متينة بين القوات اللبنانية (جعجع) والكتائب اللبنانية (الرئيس السابق أمين الجميل)، إلى تموضع التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية في جهة وتموضع تيار المردة والكتائب اللبنانية في جهة أخرى.
تلك التبدّلات، أدت إلى تغيّرات في التركيبة السياسية المسيحية، فأياً كان القانون الانتخابي العتيد في الانتخابات النيابية المقررة العام الحالي، حتى الآن، سيحمل جديداً على صعيد التحالفات الانتخابية المسيحية، يكمن في خوض التيار الوطني الحر مع القوات اللبنانية، الاستحقاق النيابي معاً، في تجسيدٍ لتحالف بدأ في 18 يناير/كانون الثاني 2016، حين تبنّت القوات ترشيح عون لرئاسة الجمهورية.
يتشابه الوضع شكلياً مع ما حصل في انتخابات عام 1968، حين تكتّل الثلاثي الأقوى لدى المسيحيين، حزب الكتائب اللبنانية وحزب الوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية، وأطاحوا تكتلات سياسية يمثلها رئيس الجمهورية آنذاك شارل حلو، وأرساها فؤاد شهاب، الرئيس السابق للجمهورية. نجاح الحلف الثلاثي أدى لوصول رئيس جمهورية عام 1970، مدعوماً منه، وهو سليمان فرنجية، جدّ النائب سليمان فرنجية. لا تزال آثار هذا الحلف، بارزة في المعجم السياسي لغالبية مسيحيي لبنان.
لكن الفارق بين اليوم وما جرى عام 1968 شاسع جداً. هناك 49 عاماً كاملة، شهدت تحوّل السلطة في لبنان، من قيادة أساسية لرئيس الجمهورية وفقاً لصلاحيات ما قبل اتفاق الطائف (1989)، إلى قيادة بثلاثة رؤوس: رؤساء الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي، في "ترويكا" أدارها الحكم السوري بين عامي 1990 و2005، قبل الانسحاب العسكري من لبنان في 26 أبريل/نيسان 2005. ومع ضعف التأثير السوري المباشر، وعدم قدرة الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان على الحكم من دون "رأس إقليمي" يديرها، غرقت البلاد في أزمات دستورية، انطلقت أساساً من مبدأ عدم تطبيق الدستور. وبات الفراغ الرئاسي، وتأخر تشكيل الحكومات، والتمديد النيابي للبرلمان، مرادفاً لاستفحال الأزمات الاجتماعية، وتدهور الوضع الاقتصادي، وبروز أزمة النفايات، والتدخل العسكري لأطراف لبنانية في سورية، سواء بشكل فردي لأشخاص لبنانيين، أو في شكل جماعي كحزب الله، وعدم توحيد الرؤية في موضوع نزوح أكثر من مليون ونصف المليون سوري إلى لبنان. وهو أمر نظرت إليه كل الطوائف، ومنهم المسيحيون، بمنظار طوائفي، لا عابر للطوائف.
وفي ظلّ تراجع دور بكركي مع البطريرك الراعي، عكس ما كان عليه الأمر مع البطريرك السابق، نصرالله صفير، الذي كان فاعلاً على خط المطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان، بات التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، الطرفين الأكثر قدرة على الإمساك بأكثرية الشارع المسيحي، مهما كان شكل القانون الانتخابي. وفي حال نجح الثنائي في كسب الانتخابات العتيدة، مسيحياً أقله، فإنهما سيكونان قد نجحا إلى حدّ ما في تحديد هوية الرئيس الجديد للبلاد، في عام 2022، على اعتبار أن الولاية النيابية تمتد لأربع سنوات، تنتهي في 2021، ويرجح أن تُمدّد حكماً، وفق "العادات اللبنانية"، فاسحين المجال أمام رئيس مستقبلي، مفترض ألا يخرج عن اسمين: سمير جعجع وجبران باسيل.