كان يوم الخميس، يوم وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون بامتياز، ففي أول خطاب له أمام مجلس العموم، بصفته وزيراً للخارجية، اعتبر أن "روسيا باتت دولة مارقة" بسبب غاراتها الجوية في سورية، مشيراً
إلى أنه "لا بد من تقديم المسؤولين عن الجرائم في سورية إلى محكمة العدل الدولية". وأعرب عن أسفه لأنه "في انتظار تغيّر الأوضاع في سورية، فإن المدنيين يموتون في حلب"، واصفاً ما تتعرّض له أحياء حلب الشرقية الخاضعة لسيطرة مقاتلي المعارضة بأنه "جريمة فاضحة ضد الإنسانية". وأضاف أنه "من الصواب بحث تدخل بريطانيا عسكرياً في الصراع السوري، لكن أي تحرك يجب أن يكون في إطار تحالف يضم الولايات المتحدة". وشدّد على أنه "يتعيّن على بريطانيا ألا تثير آمالاً كاذبة بشأن فكرة إقامة منطقة حظر طيران فوق أجزاء من سورية، لمنع الضربات الجوية الروسية والسورية على مدينة حلب".
لكن سرعان ما أثار تصريح جونسون حالة التباس استدعت من رئاسة الوزراء التدخل لتؤكد عدم وجود أي تغيير في موقف لندن بهذا الشأن. وذكرت متحدثة باسم الحكومة أنه "ليس هناك أي تغيير في موقف الحكومة. وفي الوقت الراهن نحن نركز جهودنا على توحيد شركائنا الدوليين".
ومع أن الموقف الجديد لوزير الخارجية البريطاني يبتعد كثيراً عن دعوته مطلع أغسطس/ أب الماضي، إلى ضرورة "تطبيع" العلاقات مع روسيا بعد سنوات من العداء، وتطلعه إلى ذلك، إثر مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، إلا أنه لا يتعدى، في رأي الكثير من المراقبين، حدّ التصعيد "اللفظي"، الذي يشتهر به جونسون. كما لا يُعبّر بالضرورة عن حصول تحول جذري في سياسة حكومة تيريزا ماي، التي سبق وعبّرت بعد أيام من توليها رئاسة الحكومة، خلال حديث هاتفي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن رضاها عن العلاقات البريطانية الروسية. ومع أن رئيس الدبلوماسية البريطانية دعا، يوم الثلاثاء، إلى مواجهة موسكو بتظاهرات أمام سفارة روسيا في لندن، إلا أنه اعتبر "الحديث عن نشوب حرب باردة جديدة مع روسيا ليس صائباً بشكل كامل، لأن موسكو حالياً لا تشكّل خطراً على الاستقرار العالمي كالذي كان يشكله الاتحاد السوفييتي السابق". وقال: "موسكو تفعل أموراً مزعجة كثيرة جداً، لكني لا أظن أن روسيا اليوم يمكن مقارنتها بالاتحاد السوفييتي الذي أتذكره حين كنت طفلاً".
وعلى الرغم من عدم تعاطي وسائل الإعلام والأوساط السياسية البريطانية مع تصريحات جونسون بكثير من الجدية، إلا أنها فتحت مُجدداً ملف العلاقات الروسية البريطانية التي امتازت خلال السنوات الأخيرة بتوتر بارد، لا سيما بعد توجيه لندن اللوم إلى الرئيس الروسي بوصفه من أعطى الأوامر بإغتيال المعارض الروسي ألكساندر ليتفينينكو، في لندن عام 2006.
وقد تصاعدت حدة التوتر السياسي بين البلدين بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم، ومشاركتها في القتال في أوكرانيا، وانضمام بريطانيا للعقوبات الغربية ضد روسيا، وأخيراً بعد دعم روسيا للنظام السوري. غير أن "الغضب" البريطاني، لم يتعدّ تجميد الحوار الاستراتيجي بين البلدين، الذي يشارك فيه وزراء الخارجية والدفاع، ويشمل مجالات التعاون الثنائي في قطاعات الطاقة، والتجارة والاستثمار، والعلوم والتكنولوجيا.
كما اعتبرت لندن في وثيقة "مراجعات الدفاع الاستراتيجي والأمن ـ 2015"، أن "روسيا أصبحت أكثر عدوانية، وأكثر استعداداً لتقويض المعايير الدولية. وبات النظام القومي السلطوي القائم في موسكو يُشكّل تحدياً لقواعد الأمن الأوروبي والدولي".
وعلى الرغم من كل عوامل التوتر التي تراكمت خلال السنوات العشر الماضية، غير أن الأوساط البريطانية تستبعد أن تصل العلاقات بين موسكو ولندن إلى حدّ "كسر العظم" أو المواجهة، لا سيما أن بريطانيا ليست في وضع يسمح لها بفتح جبهات خارجية، بينما تواجه مشاكل داخلية، ليس أقلّها حالة الاضطراب وعدم الاستقرار الاقتصادي، منذ أن صوّت 52 في المائة من البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 23 يونيو/ حزيران الماضي.
كما أن بريطانيا ليست على استعداد لخوض أي مغامرات عسكرية بعد تجربة غزو العراق في عام 2003 بكل ما فيها من أخطاء ومحاذير ودروس، فصّلها تقرير لجنة "تشيلكوت" للتحقيق في مشاركة بريطانيا إلى جانب الولايات المتحدة في غزو العراق. ولا يزال التحقيق ونتائجه يقيّدان عمل صنّاع القرار السياسي والأمني في بريطانيا، ويمكن ملاحظة ذلك في إحجام الحكومة البريطانية عن التدخل بقوات برية في ليبيا أو سورية، حتى أن الحكومة البريطانية لم تتجرأ على المباشرة في توجيه ضربات جوية لقواعد وقوات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في العراق وسورية إلا بعد تفويض محدود من مجلس النواب. كما يُشكك الخبراء العسكريون في قدرات بريطانيا في الدفاع عن نفسها في حال نشوب مواجهة عسكرية مباشرة مع الجيش الروسي، بحسب قول قائد سلاح الجو الملكي البريطاني السابق، السير مايكل غرايدون، لصحيفة "تيلغراف" في فبراير/ شباط 2015. ويُمكن إدراج تراجع القدرات العسكرية البريطانية في هذا السياق أيضاً، إذ لم يعد أمراً خافياً عن الرأي العام البريطاني، فقد شكك 46 في المائة من البريطانيين بقدرة الجيش البريطاني على مواجهة تهديدات حقيقية لبريطانيا.
وفي هذا الصدد، كشف استطلاع للرأي نشرت نتائجه صحيفة "ديلي تلغراف" منتصف العام الماضي، وشارك فيه 2100 شخص، أن "نصف المشاركين لا يعتقدون أن الجيش البريطاني قادر الآن على الدفاع عن البلاد بشكل صحيح". وهو الأمر الذي أكده قائد الجيش السابق، السير ريتشارد بارونز، الذي قال قبل أيام إن "القوات المسلحة البريطانية لا تستطيع صدّ أي هجوم عسكري خطير، وقد فقدت الكثير من قدرتها على خوض الحروب التقليدية".
وبعيداً عن الخطابات الساخنة التي يمتاز بها جونسون، فإن ماي تبدو أكثر هدوءاً، تحديداً حين أكدت لبوتين خلال لقائهما في قمة العشرين الشهر الماضي، على أملها في إمكانية "مواصلة الحوار البريطاني الروسي حول عدد كبير من بنود الأجندة الدولية والثنائية رغم وجود اختلافات موجودة في مواقف الجانبين من بعض المواضيع".
وتُدرك ماي، التي تقف بلادها أمام تحديات وصعوبات كثيرة في المرحلة الحالية بعد قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، أهمية روسيا في تجاوز تلك الصعوبات كشريك تجاري مُحتمل، وجسر تجاري مفتوح على القوى الاقتصادية العالمية الناشئة في الشرق والغرب، يُمكن الاستفادة منها إذا ما تعثرت مفاوضات لندن مع الاتحاد الأوروبي، بشأن العلاقات التجارية المستقبلية بين الجانبين بعد الخروج البريطاني. وما بين صراخ جونسون، وإدراك ماي لحقيقة قدرات بريطانيا والتحديات التي تواجهها "ما بعد بريكست"، يبدو أن التظاهر أمام السفارة الروسية في لندن، هو أبعد ما يُمكن أن تذهب إليه المواجهة بين روسيا وبريطانيا.