مشهد سيارة فان أميركية من طراز "جي أم سي"، عادةً سوداء اللون، رُكّبت عليها مكبّرات للصوت، وأمامها أو فوق سطحها شاب يهودي يلبس عادة بنطالاً أسود وقميصاً أبيض وتدلّت على خاصرتيه الخيوط، يرقص على إيقاع موسيقى صوفية يهودية مع دعوات للمارين بالاستعداد لمجيء المسيح المخلّص الحاخام ميلوفافيتش. هو مشهد بات مألوفاً في مدن دولة الاحتلال، بما فيها تل أبيب العلمانية. وهو بات من طقوس مريدي وأتباع حركة "حاباد" اليهودية الدينية التي يقع مقرّها الرئيسي اليوم في حي بروكلين في نيويورك، حيث منزل آخر كبار هذه الطريقة اليهودية، الرابي السابع من حيث ترتيبه العددي، مناحيم معندل شنيوآرسون، المتوفي عام 1994، وهو يكنّى أيضاً بالرابي ميلوفافيتش، نسبة إلى قرية لوفافيتش الروسية على الحدود مع بيلاروسيا، حيث تأسست الحركة في أواخر القرن الثامن عشر كحركة دينية صوفية.
ومع أن لـ"حاباد" فرعاً أساسياً في إسرائيل، على هيئة مستوطنة تقع إلى الجنوب من تل أبيب تدعى "كفار حاباد"، أي قرية حاباد، وتم فيها بناء بيت أميركي الطراز، هو نسخة طبق الأصل من بيت الرابي الأخير للحركة، إلا أنّها لا تملك في دولة الاحتلال، انتشاراً كبيراً. ويقدّر إجمالي عدد العائلات التابعة لهذه الحركة بنحو 18 ألف عائلة لا غير، بمن فيها اليهود في بروكلين.
ولغاية العام 1996، ظلّت "حاباد" بما في ذلك في إسرائيل، خارج اللعبة السياسية وخارج المشهد الحزبي الإسرائيلي، على الرغم من المكانة المرموقة التي منحتها أحزاب "الحريديم" لقائد الحركة، الرابي ميلوفافيتش المذكور. وظلّ التعامل مع الحركة باعتبارها تيارا دينيا صوفيا يهتم بقضايا الدين بانتظار عودة المسيح اليهودي المنتظر لإقامة الهيكل الثالث وبنائه، من دون أي تطرّق للحركة الصهيونية أو للجدل السياسي في إسرائيل وخارجها، وكذلك من دون تحديد موقف من الصهيونية عموماً وتياراتها المختلفة، مكتفيةً بتأييد عام لإسرائيل ككل.
لكن في الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر مايو/أيار عام 1996، وقبل حسم الانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة بين شمعون بيريس، مرشح حزب "العمل" وبين بنيامين نتنياهو مرشح "الليكود" وقتها، بعد نصف عام من اغتيال إسحاق رابين على خلفية اتفاق "أوسلو"، امتلأت شوارع دولة الاحتلال فجأة بمئات من أنصار الحركة، حيث ظهروا وهم يوزعون منشورات اكتفت بإحدى العبارات الثلاث: "نتنياهو جيّد لليهود" (بما يعني أنّ خصمه بيريس جيّد للعرب) و"أرض إسرائيل في خطر" و"نتنياهو بمشيئة الله".
وقد أدت هذه الحملة التي اجتاحت إسرائيل مصحوبة بلافتات إعلانية تحمل العبارات نفسها، إلى حسم المعركة الانتخابية لصالح نتنياهو وخسارة بيريس للانتخابات بفارق لا يزيد عن 27 ألف صوت، بعد أن امتنع العرب في الداخل عن تأييد الأخير والتصويت له بشكل مكثّف، عقاباً له على مجزرة قانا في لبنان، والترهّل وحالة الانتشاء التي سادت معسكر اليسار الصهيوني المؤيّد لبيريس.
وفتح تدخل "حاباد" في الانتخابات للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل ومنذ تأسيسها، العيون على الحركة ونشاطها الذي كان مقتصراً حتى ذلك الوقت، على الدعوة للاستعداد لمجيء المخلّص وتوفير بيوت و"نزل يهودية" مع طعام كوشير (مأكولات صُنعت حسب الديانة اليهودية) في بقاع معزولة من العالم، مثل تايلاند والهند وغيرها، لخدمة السياح اليهود، خصوصاً من الشباب في فترات الأعياد اليهودية.
وتوالت الكتب التي لفتت لهذه الحركة وحجم تأثيرها النوعي في تأجيج وتغليب البعد الديني اليهودي على السياسة الإسرائيلية، حتى وإن لم تكن حاضرة في إسرائيل بقوة. وبيّنت كتب نُشرت في إسرائيل بعد ذلك، أشهرها كتاب تناول سيرة رئيس الوزراء الأسبق آرييل شارون، لدافيد لاندو، وكتاب بن كاسبيت الأخير عن نتنياهو، وكتب ظهرت بعد الهزة السياسية للانتخابات مثل كتاب دانييل بن سيمون، "أرض غريبة"، وكتاب المراسلة السياسية للتلفزيون الإسرائيلي آنذاك، كيرن نويباخ، "المنافسة"، عمق العلاقة السرية البعيدة عن الأنظار بين قادة إسرائيل العلمانيين وبين الحركة. كذلك أظهرت هذه الكتب حرص قادة الصهيونية العلمانية على أخذ نصيحة الحاخام ميلوفافيتش، بدءاً من الرئيس الإسرائيلي الأسبق زلمان شازار، مروراً ببيغن الذي استشار ميلوفافيتش أثناء وجوده في الولايات المتحدة خلال مفاوضات "كامب ديفيد"، وبنيامين نتنياهو عندما كان سفيراً لإسرائيل في الأمم المتحدة، وحتى شمعون بيريس الاشتراكي العلماني الأبرز في الحركة الصهيونية، وأخيراً آرييل شارون الذي كان وراء حسم قرار حركة "حاباد" بالتدخّل "لإنقاذ أرض إسرائيل" من خطر "أوسلو"، والدعوة في حملة الأيام الثلاثة الأخيرة للتصويت لنتنياهو من خلال اللعب على المشاعر الدينية، وحتى عند غير المتديّنين اليهود وفق الشعارات الثلاث المذكورة أعلاه. وانتقلت "حاباد" منذ ذلك الوقت، رغم موت حاخامها الأكبر الأخير ميلوفافيتش من مجرّد حركة دينية صوفية إلى قوة مؤثرة في السياسة الإسرائيلية.