وانطلاقاً من هذا الواقع، اعتبر الخبير في الأمن والدفاع الألمانيَين والأوروبيَين، أولريكه فرانكه، في مقابلة مع إذاعة "دويتشلاند فونك" أخيراً، أنّ "الدبلوماسية لا يمكن أن تنجح إلا إذا اقترنت بالقدرات العسكرية"، مع إشارته إلى أنّ البوندسفير (الجيش الألماني) "ليس في وضع جيد في هذا المجال". وعبّر عن اعتقاده بأنّ "الدعوة إلى بناء مزيد من القدرات العسكرية، وتجهيز الجيش الألماني بشكل صحيح، وإظهار رغبة محتملة للانخراط في أنشطة عسكرية، تعني عسكرة السياسة الخارجية".
من هنا، يسود اعتقاد في ألمانيا بأنه بات من المهم لبرلين أن تأخذ زمام المبادرة في المرحلة المقبلة لفرض نفسها كدولة محور في الأزمات الدولية، وهي الدولة التي فرضت نفسها كعضو دائم في مجلس الأمن وتعدّ صاحبة الاقتصاد الأول في أوروبا، وبالتالي لم يعد ممكناً أن تقف مكتوفة الأيدي. وهو ما بدأت المعطيات تشير إليه، انطلاقاً من الوعد الذي أطلقته ميركل خلال استقبالها أخيراً وزير الخارجية الأميركي مايك موبيو، مؤكدةً أنّ ألمانيا ستلعب دوراً نشطاً في حلّ المشاكل الدولية.
ويمكن القول إنّ مردّ ذلك ربما إلى أنّ المسؤولين الألمان أيقنوا أخيراً أنّ هناك عودة للمنافسة بين القوى الكبرى في مناطق النفوذ والهيمنة، وأنّ الحليف الاستراتيجي الأميركي بدأ يبتعد تدريجياً، وبات المطلوب تعزيز الذراع الأوروبية، خصوصاً أنّ أميركا لا تشارك الأوروبيين تطلعاتهم حول قارتهم المستقبلية. ويضاف إلى ذلك صعود الدور الصيني، وهو ما سيغيّر موازين القوى في العالم، عدا عن ظهور بعض القوى المقلقة على الجانب الأوروبي بينها روسيا، ما يجعل المخاوف الألمانية مشروعة.
كل ذلك في وقت يعيش الاتحاد الأوروبي أزمات اقتصادية بين شمال القارة العجوز وجنوبها، فضلاً عن أزمات اجتماعية وسياسية، مع الوضع الضاغط في ما يتعلّق بالهجرة واللاجئين وتمدد اليمين الشعبوي. وبالتالي، بات المطلوب اليوم أن تتحمل ألمانيا مزيداً من المسؤولية.
وفي هذا الإطار، قال رئيس مؤتمر ميونخ للأمن، فولفغانغ إيشنغر، في حديث صحافي له أخيراً، إنّ مقترحات وزيرة الدفاع أنغريت كرامب-كارينباور "قد تعني تنشيط التحالفات من خلال تحمّل أوروبا مسؤولية استراتيجية على نطاق واسع، وهذا ما نحتاجه"، لافتاً إلى أنه "لا يمكن لأي هدف أن يتحقّق في هذا الإطار من دون تعاون حقيقي بين برلين وباريس، لكن طالما أنّ ألمانيا نفسها لديها سياسة أمنية محدودة، فلا يمكنها أن تقدّم بشكل كبير سياسة أمنية أوروبية مشتركة". وأكّد أنّ "على ألمانيا أن تكبر، وبدون القوة العسكرية الدبلوماسية ستكون عاجزة".
ولا بد هنا من الحديث عن أنّ المناقشات داخل الاتحاد الأوروبي تدعو لفعل المزيد من أجل الأمن والدفاع، وهذا له أسبابه، فالجميع في أوروبا باتوا يدركون ويرون تغيّر العالم وتبدله بشكل متزايد من حولهم؛ إذ أصبحت روسيا أكثر قرباً بحضورها العسكري بعد احتلالها شبه جزيرة القرم، فيما ظهرت الصحوة في أوروبا بعد انسحاب الأميركي من مناطق صراع، مع رغبة واشنطن الحالية في تحمل قدر أقل من المسؤولية.
وفي السياق، رأى الخبير أولريكه فرانكه أنه "إذا كانت نية ألمانيا أن تصبح لاعباً أقوى في الشرق الأوسط، وكذلك أوروبا، مع تراجع الدور الأميركي، وتولي الروسي مع التركي زمام الأمور وإدارة الأزمات هناك، فإنّ هذا النوع من الحماية الأوروبية لتلك المنطقة يصبح منطقياً، وفيه ما يؤشر إلى كسر للمحرمات وإلى تحوّل في السياسة الخارجية الألمانية".
في غضون ذلك، قالت المرشحة لزعامة الحزب "الاشتراكي الديمقراطي"، ساسكيا إسكن، في حديث لصحيفة "تاغس شبيغل" الألمانية أخيراً، إنّ "الأزمات الدولية المعقدة تحتاج إلى سياسات مدروسة ومنسقة"، لافتةً إلى أنه "على ألمانيا وأوروبا أن تضطلعا بدور قوي ومسؤول، وفي المقام الأوّل بما يتعلّق بالسياسة الخارجية، ثمّ السياسة الدفاعية، وعليهما التركيز على العدالة في السياسات الدولية، ومنع الأزمات والتعاون في مجال التنمية". وهو ما رأى فيه محللون ألمان أنه إشارة واضحة إلى أنّ وزيرة الدفاع تفكّر على الأقل في الاتجاه الصحيح، وهي التي قالت أخيراً إنّ "الوقت قد حان لأن تحاكي ألمانيا مصالحها بقوة أكبر، وتتحمّل المزيد من المسؤولية مع شركائها".
في المقابل، هناك من يرى أنّ توجهات وزيرة الدفاع غامضة، متسائلاً عن المصالح التي يجب الدفاع عنها، ومعتبراً أنّ مبادرات الوزيرة "تنمّ عن تفرّد، وزيادة الدور العسكري والنشاط المتقدّم للجيش الألماني وانخراطه في مهمات خارجية جديدة ليس الأساس فيها المشاركة العسكرية". كما أنّ السياسي عن الحزب الاشتراكي، هانز بيتر بارتلز، أشار في حديث مع صحيفة "باساور نويه بريسه" الألمانية أخيراً، إلى أنّ "الجيش يفتقر في مهماته للمعدات العسكرية الرئيسية وكذلك للأفراد".
غير أنه يبدو واضحاً أنّ ميركل تدعم هذه المهمة خارج الحدود، وهي أشارت إلى ذلك خلال لقائها أخيراً مع الأمين العام لـ"حلف شمال الأطلسي" ينس ستولتنبرغ في برلين، حيث اعتبرت أنّ الأمر تمّ بحثه داخل حزب "الاتحاد المسيحي" منذ سنوات، ولكن لم يتم الاتفاق عليه داخل الائتلاف الحاكم.