لا يمكن اعتبار الانتخابات البلدية التونسية التي جرت أخيراً، مجرد واجهة لمنافسات محلية أفرزت مجالس بلدية لتحسين الأوضاع في المدن والقرى، فقد جاءت حمّالة لدروس واستنتاجات سياسية مهمة، واجتماعية أهم، عكست رؤية التونسيين لواقعهم السياسي وقيادييهم. وبقطع النظر عن التنافس الحامي والمستمر بين حزبي "نداء تونس" و"النهضة"، وأوهام سيطرة الحزبين على المشهد، فإن الأرقام التي أنتجتها هذه الانتخابات تؤكد بلا شك أن التونسيين قد يكونون بصدد البحث عن بديل حقيقي للمشهد السياسي برمته.
وتشير هذه الأرقام إلى أن نسبة العزوف بلغت رقماً كبيراً، إذ رفض ثلثا الناخبين الذهاب إلى مكاتب الاقتراع، أي أن أكثر من ثلاثة ملايين ناخب لم ينجح أي طرح سياسي في إقناعهم بجدوى المشاركة في الانتخابات. أما بالنسبة للبقية الذين شاركوا في عملية الانتخاب، أي حوالي مليون و803 آلاف ناخب (من بين 5 ملايين و369 ألفاً)، فإن أكثر من ثلث هؤلاء صوّت لقائمة مستقلة، ورفضوا إعطاء أصواتهم للأحزاب، ما يعني أن حوالي أربعة ملايين ناخب كانوا بين رافضي التصويت ورافضي الأحزاب، بينما ذهب الجميع لتسجيل أسمائهم في القوائم الانتخابية، ما يُفهم منه أنهم معنيون بالشأن السياسي، ولكن ليس هذا الشأن ولا هذه الأحزاب ولا هذه الخيارات.
وعلى الرغم من وجود "النداء" و"النهضة" في مقدمة الأحزاب المتنافسة، إلا أنهما فقدا خلال هذه الانتخابات جزءاً كبيراً من الناخبين الذين صوتوا لهما في 2014، ما يعني أن قواعدهما الشعبية تتآكل وربما تذهب إلى العزوف أو التصويت لآخرين. وحصلت "النهضة" على نحو 516 ألف صوت، و"نداء تونس" على ما يزيد على 375 ألف صوت، فيما كانت الأولى قد حصلت على 947 ألف صوت في انتخابات 2014، والثاني على مليون و200 ألف صوت في الانتخابات نفسها.
في المقابل، شهدت الانتخابات الأخيرة تقدّم 897 قائمة مستقلة من جملة 2176، وحازت على نسبة 32.27 في المائة من مجموع الأصوات، وعلى 2324 مستشاراً بلدياً من أصل 7224 مقعداً، أي أنها حصلت على نحو 581 ألف صوت، وهو رقم كبير ويدعو إلى التحليل والتبصّر. يُذكر أن هذه القوائم المستقلة ليست كلها مستقلة في الحقيقة، فمن بينها قوائم حزبية متخفية وأخرى مدعومة من أحزاب أو شخصيات حزبية، وفيها أيضاً غاضبون من أحزابهم قرروا تشكيل قوائم مستقلة، ولكنها تضم أيضاً مستقلين حقيقيين مؤمنين بجدوى العمل القاعدي المحلي بعيداً عن الأحزاب. إلا أن الناخب ليس معنياً بكل هذا وربما لا يعرفه، وذهب للتصويت لصالح قائمة مستقلة، بما يعني أنه يحمل موقفاً من الأحزاب المرشحة، ويبحث عن بديل قد يغيّر واقعه المحلي اليومي، أي قد ينجح في ما فشلت فيه الحكومات المتعاقبة، وهو ما يقود إلى الاستنتاج بأن التونسيين يبحثون بالفعل عن بدائل.
اقــرأ أيضاً
هذه المقاربة ليست جديدة في الواقع، ولا تتطلب جهداً كبيراً للتوصل إليها، فقد سعت أحزاب إلى التقاط الفشل الحكومي المتراكم وهذا العزوف الشعبي عن الرأي العام، واقترحت جبهات وأحزاب جديدة بناء على هذه المعطيات، ولكن المتأمل في نتائجها يرى أنها فشلت فشلاً ذريعاً في ذلك. فالاتحاد المدني الذي يضم 11 حزباً (من بينها أحزاب كبيرة كـ"مشروع تونس" و"آفاق" و"البديل" وغيرها)، لم يتجاوز عتبة الاثنين في المائة من الأصوات، في حين هلّل على امتداد أسابيع بأنه سيقصي "النهضة" و"النداء" معاً. حتى أن رئيس الحكومة الأسبق، مهدي جمعة، وبعد رحلة تشويق طويلة، أعلن عن حزب جديد حمل اسم "البديل"، أي أنه طرح نفسه خطاباً سياسياً واقتصادياً مختلفاً عن السائد، ولكن نتائجه كانت مخيبة للآمال بشكل كبير.
في المقابل، لاحظ متابعون أن حزباً بإمكانيات محدودة ولم يترشح إلا في 20 في المائة من البلديات، هو حزب "التيار الديمقراطي"، استطاع أن يحصل على مرتبة متقدّمة بعد "النداء" و"النهضة" وقبل ائتلاف "الجبهة الشعبية" اليسارية الذي يضم بدوره عدداً من الأحزاب.
ورأى الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي"، غازي الشواشي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن أسباب العزوف عن الانتخاب تعود إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي وحالة الإحباط والتشاؤم التي أصابت فئة كبيرة من الشعب التونسي، والتي أرادت بهذا العزوف معاقبة النخبة السياسية، مشيراً إلى أن الأحزاب الحاكمة وعلى الرغم من أنها حافظت على المراتب الأولى، إلا أنها فقدت قاعدة شعبية مهمة، فـ"النهضة" فَقَدت ثلث القاعدة مقارنة بـ2014، و"النداء" فَقَد ثلثي القاعدة الشعبية، لافتاً إلى أن حزبه، "التيار الديمقراطي"، نجح في عدد من الدوائر الانتخابية وتضاعفت الثقة فيه وضاعف القاعدة الشعبية، ويُعتبر الحزب الفائز الوحيد في الانتخابات المحلية، لأنه الوحيد الذي ظهر كحزب صاعد وبدأ يكسب مصداقية لدى الرأي العام، أي القوة السياسية البديلة في تونس، بحسب رأيه.
وشدد الشواشي على أن المزاج السياسي أصبح واضحاً، فهناك عودة للوعي وتقييم واضح لأداء الأطراف السياسية التي تم انتخابها في السنوات السابقة وقدّمت وعوداً للناخبين ولم تنفذها، فحصل ما يشبه العقاب على الأقوال الجوفاء، وأعطيت الأحزاب الجديدة والمستقلون الثقة، لإيمان الناس بأن هؤلاء قادرون على أن ينفذوا ما وعدوا به.
وعلى الرغم من أن الجميع يدرك أن الانتخابات التشريعية ستكون مختلفة تماماً عن البلدية، إلا أن الأحزاب تبدو مطالبة بمراجعة خطاباتها وسياساتها بخصوص العلاقة مع الناس وأوضاعهم، إذ أظهرت هذه الانتخابات أن التونسيين لم يعودوا معنيين بالقضايا الفكرية والصراعات الأيديولوجية، إنما يبحثون عن طرح واقتراح بديل يحمل ويقوم على برنامج تنموي واجتماعي فعلي، وهو جوهر المراهنات السياسية في الدول المستقرة، بما يؤكد مرة أخرى أن الشعب متقدّم بخطوة دائماً على نخبه وأحزابه.
وتشير هذه الأرقام إلى أن نسبة العزوف بلغت رقماً كبيراً، إذ رفض ثلثا الناخبين الذهاب إلى مكاتب الاقتراع، أي أن أكثر من ثلاثة ملايين ناخب لم ينجح أي طرح سياسي في إقناعهم بجدوى المشاركة في الانتخابات. أما بالنسبة للبقية الذين شاركوا في عملية الانتخاب، أي حوالي مليون و803 آلاف ناخب (من بين 5 ملايين و369 ألفاً)، فإن أكثر من ثلث هؤلاء صوّت لقائمة مستقلة، ورفضوا إعطاء أصواتهم للأحزاب، ما يعني أن حوالي أربعة ملايين ناخب كانوا بين رافضي التصويت ورافضي الأحزاب، بينما ذهب الجميع لتسجيل أسمائهم في القوائم الانتخابية، ما يُفهم منه أنهم معنيون بالشأن السياسي، ولكن ليس هذا الشأن ولا هذه الأحزاب ولا هذه الخيارات.
في المقابل، شهدت الانتخابات الأخيرة تقدّم 897 قائمة مستقلة من جملة 2176، وحازت على نسبة 32.27 في المائة من مجموع الأصوات، وعلى 2324 مستشاراً بلدياً من أصل 7224 مقعداً، أي أنها حصلت على نحو 581 ألف صوت، وهو رقم كبير ويدعو إلى التحليل والتبصّر. يُذكر أن هذه القوائم المستقلة ليست كلها مستقلة في الحقيقة، فمن بينها قوائم حزبية متخفية وأخرى مدعومة من أحزاب أو شخصيات حزبية، وفيها أيضاً غاضبون من أحزابهم قرروا تشكيل قوائم مستقلة، ولكنها تضم أيضاً مستقلين حقيقيين مؤمنين بجدوى العمل القاعدي المحلي بعيداً عن الأحزاب. إلا أن الناخب ليس معنياً بكل هذا وربما لا يعرفه، وذهب للتصويت لصالح قائمة مستقلة، بما يعني أنه يحمل موقفاً من الأحزاب المرشحة، ويبحث عن بديل قد يغيّر واقعه المحلي اليومي، أي قد ينجح في ما فشلت فيه الحكومات المتعاقبة، وهو ما يقود إلى الاستنتاج بأن التونسيين يبحثون بالفعل عن بدائل.
هذه المقاربة ليست جديدة في الواقع، ولا تتطلب جهداً كبيراً للتوصل إليها، فقد سعت أحزاب إلى التقاط الفشل الحكومي المتراكم وهذا العزوف الشعبي عن الرأي العام، واقترحت جبهات وأحزاب جديدة بناء على هذه المعطيات، ولكن المتأمل في نتائجها يرى أنها فشلت فشلاً ذريعاً في ذلك. فالاتحاد المدني الذي يضم 11 حزباً (من بينها أحزاب كبيرة كـ"مشروع تونس" و"آفاق" و"البديل" وغيرها)، لم يتجاوز عتبة الاثنين في المائة من الأصوات، في حين هلّل على امتداد أسابيع بأنه سيقصي "النهضة" و"النداء" معاً. حتى أن رئيس الحكومة الأسبق، مهدي جمعة، وبعد رحلة تشويق طويلة، أعلن عن حزب جديد حمل اسم "البديل"، أي أنه طرح نفسه خطاباً سياسياً واقتصادياً مختلفاً عن السائد، ولكن نتائجه كانت مخيبة للآمال بشكل كبير.
ورأى الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي"، غازي الشواشي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن أسباب العزوف عن الانتخاب تعود إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي وحالة الإحباط والتشاؤم التي أصابت فئة كبيرة من الشعب التونسي، والتي أرادت بهذا العزوف معاقبة النخبة السياسية، مشيراً إلى أن الأحزاب الحاكمة وعلى الرغم من أنها حافظت على المراتب الأولى، إلا أنها فقدت قاعدة شعبية مهمة، فـ"النهضة" فَقَدت ثلث القاعدة مقارنة بـ2014، و"النداء" فَقَد ثلثي القاعدة الشعبية، لافتاً إلى أن حزبه، "التيار الديمقراطي"، نجح في عدد من الدوائر الانتخابية وتضاعفت الثقة فيه وضاعف القاعدة الشعبية، ويُعتبر الحزب الفائز الوحيد في الانتخابات المحلية، لأنه الوحيد الذي ظهر كحزب صاعد وبدأ يكسب مصداقية لدى الرأي العام، أي القوة السياسية البديلة في تونس، بحسب رأيه.
وشدد الشواشي على أن المزاج السياسي أصبح واضحاً، فهناك عودة للوعي وتقييم واضح لأداء الأطراف السياسية التي تم انتخابها في السنوات السابقة وقدّمت وعوداً للناخبين ولم تنفذها، فحصل ما يشبه العقاب على الأقوال الجوفاء، وأعطيت الأحزاب الجديدة والمستقلون الثقة، لإيمان الناس بأن هؤلاء قادرون على أن ينفذوا ما وعدوا به.
وعلى الرغم من أن الجميع يدرك أن الانتخابات التشريعية ستكون مختلفة تماماً عن البلدية، إلا أن الأحزاب تبدو مطالبة بمراجعة خطاباتها وسياساتها بخصوص العلاقة مع الناس وأوضاعهم، إذ أظهرت هذه الانتخابات أن التونسيين لم يعودوا معنيين بالقضايا الفكرية والصراعات الأيديولوجية، إنما يبحثون عن طرح واقتراح بديل يحمل ويقوم على برنامج تنموي واجتماعي فعلي، وهو جوهر المراهنات السياسية في الدول المستقرة، بما يؤكد مرة أخرى أن الشعب متقدّم بخطوة دائماً على نخبه وأحزابه.