شكَّل قيام روسيا، يوم الإثنين، بفضح هويّة منفذ الهجوم على القاعدة العسكرية "التيفور" في سورية، نقطة تحولٍ في السلوك الروسي في شأن النشاط الإسرائيلي في أجواء سورية منذ إعلان الاتفاق على التنسيق المشترك بين الطرفين، والاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة مع خط ساخن بين مقرّ القوات الروسية في سورية وبين مقر وزارة الأمن الإسرائيلية في تل أبيب. فقد خرجت موسكو عن المألوف في المسارعة إلى فضح المسؤولية الإسرائيلية والتأكيد على أن من نفذ الضربة الجوية هو الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة لاستباق توتر مع الولايات المتحدة، من جهة، وحرمان إسرائيل من جهة ثانية من ثمار سياسة "هامش الإنكار" مع بث رسالة واضحة لتل أبيب أن "ما كان سارياً في الماضي لن يكون سارياً مستقبلاً". ربما للدلالة إلى احتمال اعتراض أي غارة أو قصف صاروخي إسرائيلي مستقبلي للمواقع الإيرانية والمواقع التابعة للنظام، رغم محاذرة الاحتلال من المس بقواعد أو مناطق تواجد ضباط روس.
وقد يكون التسرّع الروسي نابعاً أيضاً من محاولة الاحتلال الإسرائيلي الإيحاء بأن روسيا كانت على علم مسبق بالغارة، لكنها لم تعترض ولم تحاول رغم نشر منظومات "إس 400" في الأراضي السورية، اعتراض الصواريخ.
ولم يقف تغيّر السلوك الروسي في هذا المضمار عند هذا الحدّ، بل تعداه إلى الإعلان أمس الثلاثاء، عن استدعاء السفير الإسرائيلي لدى موسكو غاري كورن على أثر القصف الإسرائيلي، فيما ردّت تل أبيب والخارجية الإسرائيلية بخطابٍ بدت فيه محاولة تخفيف وقع خطوة استدعاء السفير. ونقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن الخارجية الإسرائيلية، قولها إننا "نتحدث بشكل دائم ومستمر مع الروس، وبالفعل تم استدعاء السفير الإسرائيلي لدى موسكو لمحادثة مع نائب الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف"، فيما لفتت يديعوت إلى أن "سفارة تل أبيب في موسكو رفضت التعقيب على الموضوع".
في المقابل حاول وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، جلعاد أردان هو الآخر التقليل من دلالات الخطوة الروسية من خلال إبراز أهمية العلاقات الروسية – الإسرائيلية. وقال أردان في مقابلة مع موقع "يديعوت أحرونوت"، إن "العلاقات بين إسرائيل وروسيا مهمة جداً، والدليل على ذلك هو بناء آلية تواصل وتنسيق عملياتية ميدانياً بين الطرفين لمنع المسّ بجنود روس على الأرض السورية. وهي آلية تم بناؤها أيضاً من أجل تمكيننا الثبات على سياستنا نحن وعدم تمكين العدو الإيراني من تجاوز الخطوط الحمراء التي سبق وأن حددناها. وهذا أمر هو فوق كل شيء، وهو ما يدركه اليوم العالم والروس. صحيح أنه ليس لطيفاً تلقّي استنكارات وشجب ولكن أمن مواطني الدولة هو الأمر المهم".
وعكَسَ هذا التصريح ارتفاع حدة الخطاب بين إسرائيل وروسيا، خصوصاً أن أردان نفسه كان من أعلن رداً على التقارير الأجنبية حول تنفيذ إسرائيل لعملية القصف بقوله إن "حقيقة نسب مثل هذه العمليات لنا في هذا اليوم هي دليلٌ على استقرار قرارنا"، في إشارة إلى أن "تل أبيب ليست مضطرة إلى إطلاع أي طرفٍ على خطواتها المقبلة".
لكن القصف الإسرائيلي لمطار "التيفور" لم يأتِ منعزلاً عما دار في القمة الثلاثية الأسبوع الماضي في أنقرة، بمشاركة رؤساء كل من روسيا وإيران وتركيا. بالنسبة لإسرائيل إن "القمة المذكورة تمخضت عن منح إيران ضوءاً أخضرَ لتعزيز تواجدها العسكري". بالتالي جاءت الضربة الإسرائيلية الموجهة لمقر تواجد القوات الإيرانية ترجمة للتهديدات السابقة بشأن ما تسميه إسرائيل بخطوطها الحمراء، وإشارة للولايات المتحدة أن تل أبيب ستتحرك في حال رفضت الولايات المتحدة التحرك لضرب الوجود الإيراني. وهي إشارة أتت بعد تصريحات ترامب بموازاة قمة أنقرة عزمه سحب القوات الأميركية من الأراضي السورية.
ولعله من المفيد الإشارة في هذا السياق إلى أن الصحف الإسرائيلية، كانت أشارت أخيراً أن الاتصال الهاتفي الذي تم في الثالث من الشهر الحالي، بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب، كان اتصالاً سيئاً إذ رفض ترامب التراجع عن قرار الانسحاب، لكن وتحت الضغوط الإسرائيلية تقرر على ما يبدو تأجيل موعد هذا الانسحاب.
في غضون ذلك، كشفت صحيفة "هآرتس" أن "المؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل رفعت قبل شهرين، تقريراً طالبت فيه المستوى السياسي بتشديد الخطوات المتخذة ضد إيران ووجودها على الأراضي السورية، بعد أن كانت هذه المؤسسة وعلى مدار العامين الأخيرين تحذر من مغبة تورط إسرائيل في مغامرة محفوفة بالمخاطر في حال شنّت حرباً في العمق السوري ضد الوجود الإيراني، لأن من شأن ذلك أن يزج بها ويورطها في الوحل السوري، في الوقت الذي تصرّ فيه موسكو على أن الوجود الإيراني في سورية شرعي وأنها لن تتحرك ضد هذا الوجود".
وقد أشار عدد من المحللين العسكريين في الصحف الإسرائيلية، بينهم يوسي يهوشواع وأليكس فيشمان إلى أن "التطورات الأخيرة قد تؤدي في ظل استمرار التوتر في العلاقات مع روسيا، إلى تصدّع التنسيق العسكري بين روسيا وإسرائيل وأن يضع حداً لقصة الحب بين الطرفين".
في هذا السياق، اعتبر المحلل رون بن يشاي في "يديعوت أحرونوت"، أن "البيان الذي أصدرته الخارجية الإسرائيلية وأكدت فيه أن بشار الأسد خلافاً لادعاءات بوتين، استخدم السلاح الكيميائي، هو بمثابة رسم خط أحمر جديد من قبل إسرائيل في وجه روسيا". وأضاف أن "هذا البيان يعني أن إسرائيل تصعّد من المواجهة الدبلوماسية مع روسيا، لتقف في الجانب الأميركي".
ويعني هذا الأمر أنه بدا يتضح لحكومة الاحتلال أنه لن يكون بمقدورها، بعد الآن مواصلة التعامل بعلاقات ممتازة مع روسيا وفي الوقت ذاته المحافظة على علاقات مميزة مع الولايات المتحدة، أي الرقص على الحبلين، وأن موعد حسم الموقف لجهة طرفٍ من القوتين العظميين بدأ ينفذ.
ويشير بن يشاي إلى أن "ما يزيد من مظاهر التوتر في العلاقات بين روسيا وإسرائيل، هو إصدار روسيا أمس، وبشكل مخالف لسياساتها العامة والمتبعة في الفترة الأخيرة، لبيانٍ استنكرت فيه بشدة استخدام قوات الاحتلال للقوة في مواجهة مسيرات العودة في قطاع غزة"، لافتاً إلى أن "روسيا صمتت لغاية الآن عن هذا الملف، وجاء بيانها الأخير لمحاولة لفت الأنظار عن الأسد واستخدامه للأسلحة الكيميائية ضد مواطنيه. ويشكل البيان المذكور مظهراً آخر من مظاهر توتر العلاقات بين الطرفين خصوصاً أن روسيا بقيادة بوتين كانت عرضت في العامين الأخيرين اقتراحات لعقد لقاء قمة ثلاثي يجمع بوتين ونتنياهو و(الرئيس الفلسطيني محمود) عباس، في محاولة لضمان دور لها في أي مبادرة تسوية مقبلة".
وادّعى بن يشاي أن "إسرائيل تعتبر الموقف الروسي الذي يغض الطرف ويمنح الشرعية للأسد لاستخدام السلاح الكيميائي هو بمثابة تهديد وجودي عليها". وتعني حالة التوتر الحالية نهاية لسياسة نتنياهو في الأعوام الأخيرة، والتي عوَّلَ عليها في نهاية ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الثانية، بمحاولة نسج علاقات خاصة مع روسيا، من دون أن تؤثر على مكانة إسرائيل لدى الولايات المتحدة، بل والاستفادة من العلاقة مع الولايات المتحدة كرافعة لتحسين علاقات تل أبيب مع موسكو.