وفي سياق مقايضة المواطنة بالأمن، تبحث الدولة عن المواطن الدركي في الجنوب، ويبحث المواطن الجنوبي عن الدولة المدركة لمشكلاته العالقة ولتخلّفه عن الشمال في البنى التحتية والمجالات الخدمية. لكنّ المشكلة أنّ المواطنة والأمن هما عملية متكاملة ومساران متلازمان. فقد ظلّ الجنوب في العقل السياسي الجزائري برميل نفط كبيراً وواحة نخيل. وإزاء ذلك، ظلّت السلطة تتعامل معه من منظور أمني، لكونه صرّتها المالية المتأتية من حقل الغاز والنفط هناك. لكنها في المقابل، لم تضخّ في هذه الواحة الكبيرة ما يحوّل حياة الناس إلى الأفضل، ويكفيهم شرّ الطبيعة القاسية، والمشقّة في ميادين التعليم والصحة والعمل والنقل وغيرها.
في الجنوب، ما زال هناك جزائريون لا يعرفون شكل عمود الكهرباء، فيما الصحراء أكبر خزان للطاقة الشمسية في العالم، إذ تدوم فيها الإشعاعات الشمسية ثلاثة آلاف ساعة إشعاع في السنة، وبإمكانها إنتاج ما يغطي احتياجات قارة بحجم أوروبا من الكهرباء. كما أنّ هناك من لا يعرفون الغاز الذي يجري تحت منازلهم المتواضعة، في حين أنّ كثيراً من الأحياء لم تصلها حنفيات الماء بعد، في صحراء ترقد على 40 ألف مليار متر مكعب من المياه الجوفية.
في يوليو/ تموز الماضي، كانت مدن الشمال مزهوة بنتائج الناجحين بشهادة البكالوريا، فيما كانت بلدة البرمة بولاية ورقلة النفطية، تقفل عامها الدراسي على صفر من الناجحين في هذه الشهادة. فجوة كبيرة لا تقلّ عن فجوة أكبر على صعيد البنى التحتية والخدمات.
ولكن أن تأتي متأخرة خير من أن لا تأتي أبداً، تفطّنت الدولة لهذه الفجوة الكبيرة، وانتبهت متأخرة إلى أنّ هذا الوضع فاعل رئيس في انتقال التوترات الاحتجاجية من الشمال إلى الجنوب، وفي ولادة جيل جديد في الجنوب متفاعل وحانق ومغالب للسلطة في مطالبه الاجتماعية، والهجرة الداخلية للسكان، وفي تمدد المناطق الرخوة وانتشار أنشطة التهريب والإرهاب على الحدود.
تمثّل الصحراء في الجزائر 80 في المائة من مجموع مساحة البلد، وبسبب هذه المساحة الشاسعة قليلة السكان، يمكن أن تكون الصحراء كل شيء: النفط والجوع، المياه والدم، الأمن والإرهاب، مزارع للخضروات ومخابئ للأسلحة والقنابل، مناطق لعبور السيّاح أو لعبور المسلحين، بوابة لتصدير المنتجات إلى أفريقيا أو باباً لدخول المهاجرين. تفطّنت السلطة أخيراً إلى أنّ الجنوب مصدر لكل الخيرات بالأصل، لكنه يمكن أن يكون مصدر كل الشرور أيضاً.