حضر موضوع "العدالة الانتقالية" في العاصمة المغربية الرباط، يومي 17 و18 يناير/كانون الثاني الحالي، مع مشاركة برلمانيين وأعضاء مجالس شورى عرب في مؤتمر عن المصالحات الوطنية. حضر المؤتمر خبراء ونشطاء من القارة الأفريقية وأميركا اللاتينية، واكتسب أهمية خاصة لما وفّره من فرصة للمشاركين العرب خصوصاً، للتعرف على عدد واسع ومتنوع من تجارب المصالحة والعدالة الانتقالية. وقد بادرت إلى تنظيم هذه الندوة الدولية "رابطة مجالس الشيوخ والشورى والمجالس المماثلة في أفريقيا والعالم العربي – أسيكا"، بالاشتراك مع "المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالمغرب". وهدف المؤتمر هو التعرف على جدوى اللجوء للعدالة الانتقالية، بدلاً من كافة الأشكال الأخرى لفض نزاعات الماضي، وأيضاً لمواجهة "المتغيرات الجيوسياسية الإقليمية وتبعات موجات الاحتجاج والهبات الاجتماعية التي أفضت إلى تغيير خارطة الأنظمة السياسية بدول بعينها"، كما ورد على لسان رئيس مجلس المستشارين في المغرب حكيم بن شماس.
باستثناء التجربة المغربية في تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة في يناير/ كانون الثاني 2004، وكذلك التونسية التي قدّمت فيها هيئة الحقيقة والكرامة تقريرها النهائي قبل شهر، إلا أن بقية الوفود العربية اكتفت في كلماتها بـ"التعبير عن حسن النوايا"، واستعرضت تجاربها المحلية في مجال المصالحة والتي كان معظمها قد أُنجز في الماضي، متجنبة الخوض في مشاكل الحاضر. وقد اعتُبرت تجربة العراق في مجال العدالة الانتقالية فاشلة بكل المقاييس، وفقاً لمدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى المركز الدولي للعدالة الانتقالية، الخبير الدولي حبيب نصار. وعلى الرغم من الصبغة العادية للمؤتمر، فقد سجّلت بعض المؤشرات السلبية، فعندما أحيلت الكلمة إلى ممثل قطر غادر الوفد السعودي القاعة.
أما ممثلة البحرين فتحدثت عن المصالحة التي قامت بها السلطة في مرحلة سابقة، وعن التعاون مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان، لكنها لم تتطرق إلى الوضع الراهن لأوضاع الحريات في المملكة والتي تصنفها مؤشرات الأمم المتحدة ووكالاتها في مرتبات متدينة للغاية.
كما عرض البعض من المشاركين العرب المفاصل المؤلمة لأوضاعهم المحلية، مثلما فعل أحد الليبيين الذي ذكر في مداخلته أن "من بين أسباب استمرار الصراع وجود 20 مليون قطعة سلاح موزعة بين المليشيات المتقاتلة"، مشيراً إلى أن "التدخلات والاختراقات الخارجية قد زادت من تعميق الأزمة وحالت دون بناء الحد الأدنى من الثقة بين الجميع"، لكنه شدّد على أن "الأحقاد لا تبني الأوطان".
بدوره، استعرض أحد أعضاء الوفد السوداني تاريخ المصالحات التي تمت في السودان، ذات الـ114 لغة و500 لهجة. وأشار إلى الاتفاق الشهير الذي أدى إلى انفصال الجنوب عن الشمال، لكنه لم يتطرق إلى الأزمة الراهنة التي جعلت البلد يتوجه بنسق سريع نحو انتفاضة شعبية ضد الرئيس عمر البشير. أما ممثل سلطنة عمان فقد كان أكثر جرأة حين أكد على حاجة شعوب المنطقة العربية لمصالحات عميقة تنهي الصراعات المستفحلة. وتساءل إن "كانت البرلمانات العربية قادرة على القيام بمهمة الإنذار المبكر قبل أن تتحول الخلافات إلى نزاعات مسلحة"؟
يجري الحديث اليوم عن سياسة إعادة الإعمار بالدول التي تضررت بالحروب والنزاعات المسلحة. ولن يتم ذلك إلا بعد إقامة مصالحات عميقة وجدية تكون أبعد عن المناورات والحسابات المؤقتة. وهو ما يقتضي تقييماً جدياً للأسباب العميقة التي أدت إلى الأزمات السابقة حتى لا تتكرر في المستقبل. فالملك المغربي محمد السادس عندما فتح المجال أمام تجربة العدالة الانتقالية، وذلك قبل الربيع العربي بوقت طويل، كان يهدف إلى تجاوز سنوات الرصاص التي أدارها والده والانتقال بالبلاد إلى وضع جديد بشكل سلمي وهادئ وبمشاركة ضحايا الأمس.
لهذا ترتبط المصالحات والعدالة الانتقالية بالديمقراطية كنمط للحكم. ومن يتحدث عن هذا الاختيار من دون التفكير في مراجعة أسلوب ادارة السلطة سيكون حديثه بعيداً عن الرغبة في معالجة الأسباب العميقة للأزمات الضخمة التي لا تزال تمر بها المنطقة العربية. فالعدالة الانتقالية أو تحقيق المصالحة لا يعنيان توبة المعارضين وعودتهم إلى بيت الطاعة، وإنما هي آلية من أجل احترام الحقوق والتمتع بالحريات الأساسية، إذ "لا يوجد غالب أو مغلوب" بحسب تعبير أحد المشاركين.
في الجلسة الأخيرة للمؤتمر، طلب كل من وفدي السعودية والبحرين الكلمة للتعبير عن مفاجأتهم بما تضمنه التقرير الختامي من توصيات لم تعرض عليهم من قبل. فبعض هذه التوصيات سيكون من الصعب قبولها، خصوصاً بما يتعلق بالتأكيد على أن "الدولة هي المسؤولة عن الانتهاكات التي حصلت من قبل والتعهد بعدم تكرارها عبر سن القوانين وإقامة مؤسسات جديدة، وعدم الإفلات من العقاب وجبر الضرر للضحايا". أما بقية النقاشات فستحصل بعد ثلاثة أشهر في دولة قطر التي رحب ممثلها بجميع التوصيات التي تضمنها بيان المغرب.