رئاسيات فرنسا... وجه آخر للجمهورية بعد الحزبَين

25 ابريل 2017
شرطي يراقب احتجاجات شعبية رافضة للوبان (جوليان ماتيا/Getty)
+ الخط -

بتأهل مرشح "إلى الأمام قدماً" ايمانويل ماكرون، ومرشحة حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف مارين لوبان، إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وإقصاء مرشح اليمين المحافظ فرانسوا فيون والمرشح الاشتراكي بونوا هامون، تُطوى صفحة احتكار الساحة الانتخابية في البلاد، من طرف الحزبين اليميني المحافظ والاشتراكي، اللذين هيمنا على الحياة السياسية منذ حوالي نصف قرن، وترتسم معالم مرحلة جديدة قد تكون مختلفة بشكل جذري عن سابقاتها.

في هذا السياق، يمكن تسجيل تأهّل ماكرون ولوبان إلى الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية بمثابة عقاب انتخابي صريح، وجّهه الناخبون الفرنسيون إلى الحزبين التقليديين، اللذين تناوبا على حكم البلاد منذ 55 عاماً، بدءاً من عام 1962، عندما تم بناء الجمهورية الخامسة على أساس الاقتراع الرئاسي. وهو أيضاً، بالنظر إلى نسبة المشاركة الكثيفة التي بلغت حوالي 80 في المائة، انحيازٌ إلى مرشحَين رفعا شعار "تآكل النخبة السياسية" يميناً ويساراً، داعيَين إلى عهد جديد، رغم التباين الشديد في برامجهما الانتخابية. كما أن الصعود اللافت لمرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون، رغم إقصائه من السباق الرئاسي، دليل على اقتناع غالبية الناخبين الفرنسيين بضرورة تجاوز اليمين المحافظ والاشتراكي الديمقراطي، لأن ميلانشون أيضاً يرفع، على طريقته الخاصة، شعار انهيار النخبة السياسية اليمينة والاشتراكية، وضرورة بناء نظام سياسي جديد.

بالنسبة إلى لوبان فهي مهّدت الطريق إلى هذا النجاح الانتخابي منذ حوالي عشر سنوات، بعد حرب عائلية شرسة نجحت خلالها في إقصاء والدها جان ماري لوبان من القيادة، وتهميش الشخصيات التاريخية التي أسست لسمعة الجبهة الوطنية كحزب يميني متطرف يرفع شعار كره الأجانب ومعاداة الإسلام والسامية. وانخرطت مارين لوبان في إعادة هيكلة جذرية لـ"الجبهة الوطنية"، وضمّت إليها شخصيات شابة وجذابة، كما انتهجت سياسة إعلامية أكثر اعتدالاً لتلميع صورتها لدى الفرنسيين، رغم أنها من حين لآخر ترمي بسهام مسمومة كي لا تفقد قاعدة الحزب الانتخابية التاريخية.

أما ماكرون فقد بدأ تقريباً من الصفر، وبعد مرحلة تقلّد فيها مناصب في مجال المصارف وعالم المال، ثم التحق بالفريق الانتخابي للرئيس فرانسوا هولاند خلال الانتخابات السابقة 2012. وبعد نجاح هذا الأخير في الرئاسيات، عمل ماكرون كمستشار اقتصادي في مكتبه، ثم تقلّد منصب وزير الاقتصاد قبل أن يستقيل منه الصيف الماضي ويؤسس حركة "إلى الأمام قدماً". وأبان ماكرون عن موهبة لافتة في شق طريق ضيق بين الحزبين الاشتراكي وحزب "الجمهوريون"، مستفيداً بذكاء من المفاجآت المدوية التي طبعت الحملة الانتخابية، ومنها تخلّي هولاند عن الترشح لولاية ثانية، ثم هزيمة ألان جوبيه في الانتخابات التمهيدية، التي فتحت له واسعاً باب اليمين والوسط، ثم إقصاء مانويل فالس من تمهيديات الاشتراكي، التي ضمنت له أصوات الاشتراكيين الإصلاحيين. كما أن دعم الزعيم الوسطي فرانسوا بايرو له، ضمن له الموقع الوسطي الذي يحظى به الآن في المشهد السياسي.



وبالنسبة للحزب الاشتراكي، فإن هذا الإقصاء "كارثة تاريخية"، كما أقر هامون بنفسه مباشرة بعد الإعلان عن النتائج، حين قال "إن هذه النتيجة عقاب تاريخي مشروع للحزب الاشتراكي، إنها هزيمة انتخابية وأخلاقية". وبالنسبة لقدامى المحاربين في الحزب الاشتراكي، فإن هذه الهزيمة تعود بهم عقوداً إلى الوراء، وتشبه إلى حدّ كبير الهزيمة التي مُني بها المرشح الاشتراكي غاستون ديفير في انتخابات عام 1969، حين لم يحصل سوى على نسبة 5 في المائة في الاقتراع الرئاسي.

وكانت معالم "العقاب الانتخابي" بدأت إرهاصاتها منذ شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، حين أعلن هولاند تخليه عن الترشح لولاية ثانية، في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ السياسي الفرنسي. وتوضحت الأمور أكثر عندما تم إقصاء رئيس الوزراء مانويل فالس في الانتخابات التمهيدية، التي تمخضت عن فوز هامون الذي يمثل تيار الساخطين داخل الاشتراكي، رغم أنه تيار الأقلية.

ليلة الأحد 23 إبريل/نيسان الحالي ستبقى أيضاً في التاريخ كذكرى انهيار تاريخي لليمين المحافظ الذي يمثله حزب "الجمهوريون" وريث المبادئ الديغولية التي تأسست عليها الجمهورية الخامسة. فهذا الحزب الذي كان من المفترض أن ينجح بدون مشاكل في خلافة الاشتراكي على الحكم، يجد نفسه الآن على شفير الهاوية، بعد أن أُقصي للمرة الأولى في تاريخه في الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة. فبعد أن نجح فيون في خلق المفاجأة وهزم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء الأسبق ألان جوبيه في الانتخابات التمهيدية، دخل في دوامة فشل معلن بسبب متاعبه القضائية وانهيار سمعته الأخلاقية. وتتبع الفرنسيون، عبر وسائل الإعلام، فصول سقطته التراجيدية، في حين فشلت قيادات اليمين في إقناعه بالتنحي لتفادي الهزيمة المحققة، في ظلّ العناد المبالغ فيه لفيون الذي ظل يؤمن، حتى اللحظة الأخيرة، بأن الهزيمة الأخلاقية لا تفضي بالضرورة إلى هزيمة سياسية.



وبات من الواضح الآن أن إقصاء الحزبين اليميني والاشتراكي سيفسح المجال لسجال أيديولوجي واضح في الدورة الثانية. وسيشاهد الفرنسيون قريباً، خلال مناظرة تلفزيونية مباشرة، نقاشاً حامياً بين ماكرون الذي يدعو إلى "فرنسا أوروبية جديدة ونظام ليبرالي منفتح ومجتمع علماني متصالح مع أقلياته الدينية والعرقية"، وبين لوبان التي تدعو إلى "إغلاق الحدود والخروج من الاتحاد الأوروبي وتطبيق شعار الأفضلية للفرنسيين ومعاداة صريحة للمهاجرين وللإسلام".

هذه المرة يجد الفرنسيون أنفسهم أمام نظرتين مختلفتين جذرياً، ولا سبيل للمصالحة بينهما. فماكرون يقول إن الصراع الآن في فرنسا هو ما بين التقدميين والمحافظين، في حين تشدد لوبان على أن الصراع هو بين دعاة النزعة الأوروبية والقوميين السياديين. والملاحظ أنه كما حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة، فإن الأرياف تجد نفسها في انسجام تام مع أفكار لوبان اليمينية المتطرفة، بينما سكان المدن ذوو الأصول المتعددة يساندون ماكرون الأكثر انفتاحاً منها.

وإذا كان ماكرون حظي بدعم واسع من طرف مرشحي الحزب الاشتراكي وحزب "الجمهوريون" مباشرة بعد إعلان نتائج الدورة الأولى، فإن معركته مع لوبان لن تكون محسومة سلفا، كما يتبادر إلى أذهان بعض المعلقين الذين يعتبرون، استناداً إلى نتائج استطلاعات الرأي، أن المتأهل إلى جانب لوبان للدورة الثانية سينجح حتماً بالفوز بالرئاسة. ومن أجل تعزيز حظوظه، اعتبر مراقبون أنه على ماكرون بذل جهود إضافية لإقناع الناخبين اليساريين الذين صوتوا على مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون، خصوصاً أن هذا الأخير لم يدع حتى الآن إلى التصويت عليه. كما أن خطر حصول عزوف أو مقاطعة للاقتراع النهائي، في 7 مايو/أيار المقبل، ليس مستبعداً بشكل نهائي.