أنهى مؤتمر هرتسيليا أعماله، مساء الخميس الماضي، بكلمة ألقاها رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، بعدما أحجم رئيس الحكومة الحالي بينامين نتنياهو عن إلقاء خطابه التقليدي أمام المؤتمر. وفتح ذلك الباب للمرة الأولى منذ العام 2012، لإسدال الستار على عناوين صاخبة تحذر من "هولوكوست" مقبلة ومن "خطر وجودي" على إسرائيل، لينتقل المؤتمر بمجمله عملياً إلى استشراف التحديات والأخطار الاستراتيجية، ولكن ليس الوجودية على دولة الاحتلال.
بدأ المؤتمر أعماله يوم الثلاثاء الماضي تحت شعار "أمل إسرائيلي مشترك"، وما يعنيه ذلك من بناء هوية إسرائيلية جامعة، وفق "رؤيا" مشوّهة يطرحها الرئيس الإسرائيلي، رؤوبين ريفلين (الذي يصف نفسه بأنه تلميذ وفيّ لزئيف جابوتنسكي)، قسم بموجبها سكان إسرائيل إلى أربع أسباط: علماني صهيوني وصهيوني متديِّن وحريديم وعربي. إلا أن الأوراق التي وضعت أمام المؤتمر، بالرغم من توصيات لجنة توجيه خاصة شكلت لوضع توصيات تحقق رؤيا ريفلين، شملت عدداً من الشخصيات العربية، أبرزها النائب السابق عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، حنا سويد، أشارت إلى استحالة الوصول إلى "هوية إسرائيلية جامعة بدون، مثلاً، تحديد وترسيم حدود لدولة إسرائيل، وفي ظل استمرار الاحتلال"، وهي الورقة التي وضعها أمريوتي سامي سموحة، وتؤكد أن الغالبية اليهودية والمؤسسة الإسرائيلية لن تقبل مثلاً بالاعتراف بالفلسطينيين في الداخل بوصفهم أقلية قومية ولا بمنحهم حكماً ذاتياً ثقافياً.
وقد شكل مؤتمر هذا العام نقطة فارقة، ذلك أن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال "أمان"، هرتسل هليفي، لم يلجأ، كما درجت العادة، إلى خطاب التهويل من "الخطر الوجودي" للربيع العربي وتدفق الأعداء من مختلف الجبهات، أو من الترسانة الصاروخية لحزب الله. صحيح أنه حدد حزب الله كأحد آخر القوات المنظمة التي تهدد الحدود الإسرائيلية، وليس "الوجود الإسرائيلي"، وأن المواجهة المقبلة مع الحزب ستكون أشد وطأة على الجبهة الداخلية، إلا أنه أشار أيضاً إلى عمق المعرفة الإسرائيلية الحالية بأحوال حزب الله مقارنة بما كان عليه الحال خلال العدوان على لبنان عام 2006.
وكان لافتاً أن هليفي الذي كرر في السابق الحديث عن غياب وانهيار الجيوش النظامية في الحرب المقبلة ضد إسرائيل، امتنع هذا العام في تقريره أمام المؤتمر عن الإشارة إلى مصدر يهدد الوجود الإسرائيلي. وبالإضافة إلى هذا التعديل في خطاب رئيس الاستخبارات، أتى الهجوم الذي شنه في السياق نفسه وزير الأمن السابق، موشيه يعالون، على سياسة نتنياهو وأسلوبه في التحذير بلا سبب حقيقي من خطر حرب إبادة ضد إسرائيل. كذلك، برزت انتقادات باراك للخطاب المتعلق بالتحذير من "هولوكوست" جديد، في حين لم تتضمن الكلمات التي ألقاها كل هؤلاء المسؤولين الإسرائيليين في المؤتمر، كذلك كلمة وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، أي ذكر لهذا "الخطر". جميعها معطيات تسمح بالقول إن المؤتمر أوصد الباب عملياً أمام هذا الخط الدعائي الذي تسلّح به نتنياهو منذ العام 2012 في مساعيه لمنع عقد اتفاق دولي مع إيران وجر الولايات المتحدة لعملية عسكرية ضد هذا البلد ومنشآته النووية.
في المقابل، يتضح من مختلف مداولات المؤتمر حجم الأهمية التي تبديها إسرائيل لمسألة المعلومات الاستخباراتية وتوفير هذه المعلومات لاستخدامها في كافة المستويات والمجالات في اتجاهات عدة: ــ في الحرب العسكرية، إذ قال هليفي، على سبيل المثال، إن "ما نعرفه عن حزب الله سيفاجئ الحزب لو عرفه". ثم لبناء شبكة وجهاز استخباراتي لجمع المعلومات عن ناشطي ومنظمات حركة "المقاطعة الدولية" لإسرائيل، كخطوة أولى لمواجهة هذه الحركة، وفق ما كشف عنه وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان، ــ وأخيراً، البدء بالتأقلم لاستيعاب مقاتلات F35 في سلاح الجو الإسرائيلي، على ما تحمله من إضافة في مجال رصد وتصوير وجمع المعلومات لدعم القوات البرية في حالة الحرب، بحسب إعلان قائد سلاح الجو الجنرال أمير إيشل.
وتبدو حالة إسرائيل الاستراتيجية، وفق مؤتمر هرتسيليا لهذا العام، إذاً، أقل سوءاً من الصورة التي اعتاد المؤتمر عرضها في السنوات الماضية، سواء من خلال سيناريو الرعب الذي كان رئيس شعبة الاستخبارات السابق كوخاف يئير، يقدمه أم من خلال سيناريو خطر "الهولوكوست" الذي كان نتنياهو يسلط الضوء عليه، بل إن الصورة التي رسمها غولد، المقرّب من نتنياهو ومستشاره السابق، تشي بـ"ثقة إسرائيلية" في نسج علاقات واسعة والعودة إلى أفريقيا واختراق جنوب شرق آسيا في عدد من المحاور الرئيسية، مثل التوقيع على اتفاقيات للتجارة الحرة مع الصين والهند، وتعاون وثيق مع اليابان وحتى مع دول إسلامية في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي.
وقد عبّر عن هذا التوجه خلال المؤتمر كلّ من يعالون، الذي أعلن عزمه ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة، ودعوة باراك المجتمع الإسرائيلي للتحرك لإسقاط حكومة نتنياهو عبر حراك شعبي، وتصريحات لوزيرة الخارجية السابقة، تسيبي ليفني، بشأن الاستعداد للخوض في بلورة كتلة سياسية جديدة، خارج المعسكر الصهيوني، المكون من تحالف بين حزبها "هتنوعا" وبين حزب العمل، تعكس تيار يمين الوسط وقادرة على استيعاب مختلف التشكيلات لبناء جسم يكون قادراً على مواجهة نتنياهو. أمر يعني احتمال عودة المشهد الإسرائيلي إلى الثنائية بين حزبين أو كتلتين كبيرتين، واحدة في الوسط تأمل بنيل أصوات من اليمين واليسار، وأخرى في اليمين عمادها "الليكود". ودعم هذه الأجواء، النفي الصادر مساء الخميس، لنية رئيسي أركان الجيش السابقين، الجنرالين غابي إشكنازي وبني غانتس تشكيل حركة سياسية واجتماعية جديدة.