أقل من ثلاثة أيام هي المدة التي استغرقتها عملية "حزب الله" اللبناني في جرود بلدتي عرسال اللبنانية وفليطة السورية، بهدف طرد مُسلحي "جبهة فتح الشام" (النصرة سابقاً منها)، وهي معركة كانت محسومة النتائج نتيجة الحصار الطويل الذي عانى منه عناصر "فتح الشام" في هذه المنطقة التي تولوا مع تنظيم "داعش" إفراغها من مقاتلي الجيش الحر بالترغيب مرة وبالترهيب والقتال مرات. وكان الحزب قد أعلن عبر جهاز إعلامه الحربي عن السيطرة على جرود بلدة فليطة بشكل كامل وجزء كبير من جرود بلدة عرسال، بعد ظهر أمس الأحد.
ومع تجاوز أهداف "حزب الله" من القتال في سورية حدود "حماية لبنان" إلى "دعم النظام السوري في معركته ضد التطرف" لن تكون معارك الجرود آخر فصول قتال الحزب في الأراضي السورية، مع استمرار قتاله في ريف دمشق وبعض مناطق الشمال والجنوب والساحل والبادية. كما يتم الحديث عن التحضير لجزء ثان من عمليات الجرود ضد تنظيم "داعش" الذي ينتشر عناصره في جرود جراجير وقارة السوريتين وفي مواقع قريبة من جرود بلدة رأس بعلبك اللبنانية.
وسبق لـ"حزب الله" أن استهلّ العهد الرئاسي الجديد في لبنان باستعراض عسكري في مدينة القصير السورية في 13 نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، أعلن فيه هيمنته على قرار المنطقة الحدودية وتجاوز قوته الميدانية أي حراك سياسي داخلي في لبنان. وها هو يواكب العهد الجديد بعمليات عسكرية جديدة في سورية تمنحه المزيد من التقدم الميداني المتزامن مع المزيد من تراجع سلطة الدولة لصالحه داخلياً وخارجياً. وإن بقيت أصداء تصريحات رئيس الحكومة سعد الحريري بشأن "تكليف الجيش انجاز عملية عسكرية نظيفة في الجرود" في العاصمة بيروت، فإن التسوية السياسية التي عقدتها القوى اللبنانية في ملف رئاسة الجمهورية نهاية العام الماضي منحت الحزب غطاءً مريحاً للقتال في سورية بعد تبنّي رئيس الجمهورية ميشال عون، وهو قائد أسبق للجيش، نظرية "حاجة الجيش اللبناني لحزب الله بسبب ضعفه". وهو ما برز من خلال تولي "حزب الله" إدارة وتنفيذ العمليات العسكرية في الجرود، بينما توقف دور الجيش اللبناني المنتشر في عرسال وحولها على استهداف بعض التحركات المكشوفة لعناصر "فتح الشام". في وقت تعرضت المناطق القريبة من مواقعه لقصف طيران النظام السوري، في تنسيق عملاني تجاوز الموقف الذي قال إنه "لا تنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري في عرسال".
كما شكّل عنوان "مكافحة التكفيريين وضرب مصدر إرسال السيارات المُفخخة عبر الجرود إلى لبنان لتفجيرها" عنوان معركة "حزب الله" في تلك المنطقة وفي عملياته، التي طاولت ريف دمشق الشمالي وريف حمص الجنوبي على طول الحدود اللبنانية الشرقية مع سورية. وكانت مشاركة الحزب في العمليات العسكرية في تلك المناطق عاملاً حاسماً في استعادة النظام السوري السيطرة عليها خالية، بعد مغادرة عشرات آلاف السكان المعارضين للنظام.
وقد غيّرت عمليات الحزب العسكرية ديموغرافية المنطقة وزادت من أعباء اللجوء الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية على لبنان، وذلك في ظل عجز رسمي كامل عن تحديد موقف موحّد من ملف اللجوء ومن ملف مشاركة "حزب الله" في الحرب السورية تحت مُختلف العناوين. ومع توجه الحزب لحصر مقاتلي "فتح الشام" في منطقتي الملاهي ووادي حميد، التين تقعان عند أطراف بلدة عرسال، تتحدث مصادر محلية في البلدة عن خيارات محدودة أمام هؤلاء المقاتلين: "فإما الاستماتة في محاولة الدخول إلى البلدة وتخريب الوضع الأمني فيها، أو الانتقال إلى شمال سورية بعد التفاوض مع الحزب". وتطرح استكمال سيطرة الحزب على الجرود المتداخلة أسئلة عن مصير حوالي 100 ألف لاجئ سوري يقيمون في بلدة عرسال، ويواصل "حزب الله" دعوتهم للعودة إلى حكم النظام السوري، ودعوة السلطات اللبنانية لتنسيق عودتهم مع النظام.
وسبق لمعارك الحزب الحدودية أن أنتجت واقعاً مُعقداً في منطقة القلمون، التي تحولت إلى ملجأ للتنظيمات المتطرفة بعد خسارة مواقعها في ريفي دمشق وحمص وتحولها إلى قتال فصائل الجيش الحر في المنطقة. وترافق هذا الواقع الميداني مع حملة عنصرية استهدفت اللاجئين السوريين في لبنان وحاولت تصوير بلدة عرسال التي تبعد عن الجرود لمسافة تزيد عن 20 كيلومتراً كعاصمة للتطرف في خاصرة البقاع الشمالي، الموالي دينياً والمؤيد سياسياً لـ"حزب الله". ومع فشل المفاوضات التي قادها "حزب الله" في محاولة لاستباق إعلان الولايات المتحدة عن مناطق آمنة في سورية ومن بينها القلمون، كانت الحشود العسكرية العابرة للحدود جاهزة. وكان الاستطلاع الجوي المُسبق حاسماً في تحديد مواقع "فتح الشام" في الجرود، وكان تقدم مشاة الحزب سريعاً بعد القصف التمهيدي المكثف للمواقع. وتوالى خلال أيام المعارك تشييع مقاتلي الحزب الذين قُتلوا في الجرود في البلدات القريبة من عرسال، وهو واقع قد يُبقي الحالة الثأرية مشحونة لسنوات طويلة في المنطقة التي تتبنى أعراف القبائل.