لا أحد من الفاعلين السياسيين والمراقبين لتطورات المشهد السياسي في الجزائر كان يتوقّع أن تستمرّ الأزمة النيابية إلى غاية أسبوعها الثالث، خصوصاً أنّ مبادرة نواب الكتل الخمس الموالية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بطرح لائحة حجب الثقة عن رئيس البرلمان، لم تكن عفوية، وفُهمت على أنّها إشارة من الرئاسة في حدّ ذاتها. لكنّ راهن الأزمة النيابية، يدفع باتجاه طرح أكثر من سؤال حول من يقف وراء صمود رئيس البرلمان، وخلفيات تمسّكه بمنصبه، بغضّ النظر عن الموقف الدستوري، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى طبيعة شخصية بوحجة التي لا تميل إلى الصدام السياسي. كما لا يعرف عنه إطلاق مواقف خارجة عن سياق الخطاب الرسمي، ويعرف بتمسكه الشديد بأدبيات الدولة والمؤسسة الرسمية.
وتعليقاً على هذه الأزمة، يقول القاضي السابق عبد الله هبول، في تصريح لـ"العربي الجديد": "ليس لدي أدنى شكّ في أنّ رئيس البرلمان السعيد بوحجة يتمتّع ويستفيد من دعم بشكل ما من جهة ما في منظومة المؤسسة العسكرية. وباعتقادي إنّ هذا الدعم يجعله قادراً على المقاومة والصمود والتمسّك بموقفه في مواجهة النواب الذين يطالبونه بالاستقالة"، مضيفاً أنّه "برغم كلّ التحوّلات التي حصلت داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، في علاقتها بالرئاسة والمشهد السياسي، فإنّ ثقلها وتأثيرها ما زال قائماً".
ويربط مراقبون بين تطورات الأزمة النيابية ومستوى انزعاج قيادة جهاز الاستخبارات من نشر موقع إخباري يتبع لقناة "النهار" المقرّبة من دوائر الحكم النافذة، لمقال تطرّق لدور جهاز الاستخبارات في الأزمة، ما دفع عناصر الجهاز إلى اعتقال الصحافي كاتب المقال. ويرى المراقبون أنفسهم أنّ هذا التصرّف ما هو إلا انكشاف لهذا الدور.
وفي السياق، يذهب المحلّل السياسي، أحسن خلاص، إلى القول إنّ "المقربين من رئيس المجلس لا يخفون علاقته مع رئيس جهاز الاستخبارات، وهناك من يرى أنّ هذا الأخير كان وراء قيادة بوحجة للغرفة السفلى"، متسائلاً "لكن هل تكفي العلاقة الشخصية لتفسير ذلك؟ أعتقد أنه في نظام تراجع فيه دور المؤسسات لصالح دور العَصْب، هذا أمر ممكن". ويضيف خلاص في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّه "من الصعب تحديد الأطراف التي تتحكّم في خيوط الصراع داخل البرلمان، وإذا كان واضحاً أنّ قيادات الأحزاب الرئاسية تقف ضدّ بوحجة صراحة، فإنّ الأخير شحيح بالمعلومات حول من يقف وراءه، رغم إقراره ضمنياً وصراحة أحياناً، بأنّه ينتظر إشارة من خارج المجلس، من دون تحديد دقيق للجهة".
ويشير خلاص إلى "مؤشرات ظهرت أخيراً تبيّن أنّ بوحجة يحظى بتأييد من منظمات الأسرة الثورية (محاربي ثورة التحرير)"، معبّراً عن اعتقاده بأنّه "إذا ما تمّت الزيارة الاستطلاعية، المقرّرة الاثنين المقبل، للطلبة الضباط من الأكاديمية العسكرية إلى المجلس، فإنّ ظاهر الزيارة سيكون اعتيادياً وهو يتكرّر سنوياً، لكن باطنها الآن سيكون فكّ الحصار عن رئيسه". إذ يمكن لهذه الزيارة أن ترسل إشارات سياسية في الوقت نفسه، عن دعم الجيش لرئيس البرلمان، ورغبته في تجاوز الانسداد الحاصل عبر تنازل ظرفي للكتل المناوئة.
كذلك، ترى قراءات سياسية أخرى، أنّ تغيّر الموقف لصالح رئيس البرلمان، لا يعود إلى حصوله على دعم من قائد جهاز الاستخبارات المرتبط بالرئاسة، بالضرورة، بقدر ما يمكن أن يكون موقف المرجعية الثورية (منظمة المجاهدين)"، وهي منظمة قدماء محاربي "ثورة التحرير"، وتتمتع بثقل اعتباري ورمزي، وربما يكون موقفها قد شكّل ضغطاً على الجهات التي تحاول الإطاحة برئيس البرلمان.
ويذهب المحلّل السياسي بشير بودلال، في هذا الاتجاه، ويقول في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّه "من المؤكّد أنّ السعيد بوحجة، وهو ليس بالشخصية الكاريزمية في جهاز (حزب) جبهة التحرير الوطني، يتّكئ على جهة قوية وفاعلة ترغب بشدة في بقائه كرئيس للبرلمان في هذه الفترة الدقيقة التي تسبق الانتخابات الرئاسية المقررة في ربيع عام 2019 المقبل"، مضيفاً أنه "يبدو من خلال تحرّك المنظمة الوطنية للمجاهدين الداعمة لبوحجة، أنها الأقوى والأثقل والأهم في النظام الجزائري، بسبب فاعليتها وتأثيرها في منظومة الحكم منذ الاستقلال، وتعكس مواقفها موازين القوى السائد في النظام".
ويتابع بودلال أنّ "رئيس البرلمان استفاد من تغيّر موازين القوى داخل النظام نتيجة تداعيات فضيحة الكوكايين في الربيع الماضي، والتغييرات العميقة التي مسّت قيادات المؤسسة العسكرية والشرطة. أما في ما يتعلّق باللواء المتقاعد بشير طرطاق، منسق المصالح الأمنية للاستخبارات في نسختها الجديدة بعد الهيكلة، فقد تراجع دوره على اعتبار أنّ الدور الجديد لجهاز الاستخبارات، ليس بفعالية الدور ذاته قبل 2013، إذ يبدو أنّ هيكلة الاستخبارات أثّرت على أدوارها ومهامها في النظام السياسي، بفعل استحواذ أجهزة أخرى تتبع لهيئة الأركان والشرطة والدرك عليها".
إضافة إلى كل هذه المعطيات، فإنّ بوحجة يمسك بالخيط نفسه، وينافس مناوئيه من الكتل النيابية على الولاء للرئيس عبد العزيز بوتفليقة وسياساته. وتتزايد المؤشرات على أن الرئاسة، التي حاولت أن تنأى بنفسها عن الأزمة، إذ لا يسمح لها الدستور بالتدخّل، قد أعادت تقدير الموقف وكلفة الأزمة النيابية، ووجّهت بإعادة تفعيل نشاط البرلمان لغاية غلق الدورة البرلمانية الخريفية في الثاني من يناير/ كانون الثاني المقبل، على أن يتم حسم الأزمة خلال شهر العطلة، أي قبل افتتاح الدورة الربيعية في الثاني من فبراير/ شباط المقبل.
ولم تشهد الجزائر أزمة نيابية وشلّاً لنشاط البرلمان لفترة أكثر من أسبوعين، كالتي يشهدها البرلمان الحالي منذ 27 سبتمبر الماضي، بعد توقيع 361 نائباً على لائحة تطالب رئيس البرلمان بتقديم استقالته، ثم قرار الكتل الخمس التي تتبع لحزب "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديمقراطي" و"الحركة الشعبية الجزائرية" و"تجمّع أمل الجزائر" والمستقلين، تجميد نشاط اللجان البرلمانية. لكنّ أزمة البرلمان لا تبدو أزمة بين رئيسه والنواب، فهي تتجاوز حدود المؤسسة النيابية، وكذلك يبدو الحلّ للأزمة، إذ ينتظر أن يتم أيضاً خارج أسوار مبنى زيغود يوسف. وربما يكون انكشاف الأطراف المسببة للأزمة مقدمة لحلّها.