بدا ريفي وحيداً يوم الأحد. لم يُسانده الإعلام المحلي، ولم يكن منصفاً بحقّه. وصل الأمر ببعض هذه الوسائل إلى تجاهله تماماً. حاربته المؤسسة الدينيّة، المسلمة والمسيحيّة في المدينة. ولم تترك الأجهزة الأمنيّة هذه الفرصة تمرّ من دون التكتل ضدّه. تمسّك ريفي بالإحصاءات التي كانت تُظهر تفوقه على خصومه، فرادى أو متكتلين. لكن هذا التمسّك، عُزز بنشاط ميداني، لم ينتبه له الكثيرون في لبنان، لأنه لم يأخذ حصته من التغطية الإعلاميّة. ففي الأسبوع الماضي، جال ريفي على أحياء طرابلس الشعبيّة. لم يترك حياً، إلا وجلس مع أبنائه متجاهلاً حذره الأمني. كيف لا يقوم بذلك، وقد خاض الانتخابات على طريقة "الروليت الروسية". إمّا يربح الزعامة، أو يخسر كلّ شيء.
يُتهم ريفي بأنّه عمل على تمويل قادة المحاور خلال الاشتباكات التي استمرت، وإن متقطعة، في طرابلس منذ عام 2008 إلى 2014. في مكان ما، استفاد ريفي من هذا الاتهام، خصوصاً أنه لم يغسل يديه تماماً من قادة المحاور، كما فعل الآخرون.
لم يأتِ انتصار ريفي من فراغ. صنع الرجل "قضيّته" في السياسة بعكس خصومه. فمنذ تقاعده، بعدما رفض "حزب الله" تمديد ولايته في قوى الأمن الداخلي بعدما جرى تمديد ولاية مجلس النواب وقائد الجيش وعدد من موظفي الدرجة الأولى، أعلن ريفي أن مشروعه هو مواجهة "حزب الله". وعند تشكيل حكومة تمام سلام، رفض الحزب أن يتولى ريفي وزارة الداخليّة، بينما قبل بالوزير نهاد المشنوق.
رفض ريفي مهادنة "حزب الله" في اللحظة التي قرر سعد الحريري ذلك. واجه ترشيح الحريري للنائب سليمان فرنجيّة لرئاسة الجمهوريّة، وقال إنه "مرشّح نظام الأسد وإيران".
ريفي، أعلن الحرب على المحكمة العسكرية بعد حكمها المُخفف بحق الوزير السابق ميشال سماحة المتورط بإدخال عشرات العبوات إلى لبنان لتنفيذ اغتيالات وتفجير تجمعات مدنية معارضة للنظام السوري. ثم استقال يوم أخلت المحكمة سبيل سماحة. ورفض كل الدعوات للعودة إلى الحكومة عند صدور الحكم بسجن سماحة لعشر سنوات، وردد في جلساته الخاصة "لماذا أعود إلى حكومة فاشلة وغير قادرة على إنجاز أي شيء".
من هنا، تحمل نتائج طرابلس العديد من الدلالات المهمّة:
أولاً، كافأ الطرابلسيون ريفي على حفاظه على موقف سياسي واضح، ورفضه المساومة على ما يعتبرونه من ثوابتهم، كما على علاقته الوثيقة بالأحياء الشعبية، والنطق باسمها. خصوصاً، أنه "اتهم" بتسريب شريط فيديو يُظهر تعذيب السجناء الإسلاميين في سجن رومية على يد قوى الأمن الداخلي.
ثانياً، لم يعد اسم رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وقضية اغتياله، قادرة على تجيير القوة الناخبة لـ"تيار المستقبل"، لا بل إن تحالفات "المستقبل" من بيروت إلى طرابلس، أظهرته حزباً تقليدياً يسعى إلى السلطة، على حساب الناس.
ففي انتخابات 2005 النيابيّة، خاض "المستقبل" الانتخابات وفاءً لرفيق الحريري. ثم خاض انتخابات 2009 النيابية و2010 البلديّة، رفضاً "لاحتلال بيروت في الثامن من مايو/أيار"، عندما سيطر "حزب الله" عسكرياً على بيروت وعدد من المناطق المحيطة بها. تحالفات "تيار المستقبل" في بيروت وطرابلس أسقطت الشعارات التي رفعها التيار في الجولات الانتخابيّة السابقة، من دون بلورة أي شعار أو قضية للانتخابات الحالية. لا بل، بدت الانتخابات، وكأنها محاولة مسعد الحريري لترتيب وضعه للعودة إلى رئاسة الحكومة، بهدف الاستفادة من ذلك لترتيب وضعه المالي المتردي.
ثالثاً؛ أثبتت انتخابات طرابلس أن المال السياسي ليس العامل الأول للفوز بمعركة انتخابيّة في مدينة بحجم طرابلس. يُمكن أن يكون عاملاً مساعداً، في حال تقارب اللائحتين المتنافستين، لكنه لا يُمكن أن يؤمّن الفوز في حال غابت القضية. واللائحة الائتلافيّة لم تكن تملك مشروعاً سياسياً أو إنمائياً. فهي ائتلاف قوى فازت عام 2010 بالمجلس البلدي، وفشلت في تقديم أي شيء للمدينة. والأهم، أن صراع هذه القوى أدى إلى اندلاع اشتباكات مسلّحة في الشمال، خصوصاً على خلفية قبول ميقاتي بتولي رئاسة الحكومة بعد إقالة حكومة سعد الحريري.
وأظهرت الانتخابات أيضا أن ميقاتي ليس القوة الأكبر في طرابلس، وهو الذي عمل على تسويق هذه الفكرة عبر خطابه تياره السياسي. وبالتالي يُمكن القول إن ميقاتي من أبرز الخاسرين، خصوصاً أنه لا يتواجد سياسياً في مناطق أخرى، بل إن ثقله الأساسي في طرابلس.
رابعاً، كرّست نتائج طرابلس واقع أن هناك حالة اعتراضيّة على الأحزاب السياسيّة التقليديّة في لبنان. هذا لا يعني أن ريفي جزء من المجتمع المدني، بل كان جزءا من السلطة على مدى سنوات إن عبر قوى الأمن الداخلي أو توليه وزارة العدل، لكنه ليس من الطاقم السياسي التقليدي.
خامساً، النتائج أكّدت أيضاً أزمة "تيار المستقبل". فهذا التيار الذي كان قادراً على خوض الانتخابات والفوز فيها في معظم المناطق السنية من دون التحالف مع أي قوة، لم يكن قادراً بالأمس على الفوز ببلدية طرابلس بالتحالف مع عدد كبير من القوى. كما تعرّض لهزائم قاسية في الضنية. وهذا يُشير إلى انكسار صورة الزعيم السني على طول الخارطة في لبنان، وهي زعامة لم يستطع رفيق الحريري أن ينالها، بل حصل عليها سعد الحريري بعد اغتيال والده. اليوم لم يعد هناك زعيم سني أوحد، بل عدد من الشخصيات القوية في مناطق محددة، وهو ما بدا أن الكثيرين قد تيقنوا منه في الأشهر الماضية، ومنهم السعودية. أثبت ريفي أنه الأقوى في طرابلس، وبالتالي لم يعد ممكنا استبعاده كما كان يُخطط. وقد استفاد ريفي من "قلة الاهتمام السعودي" بالملف اللبناني حالياً، لحجز موقعه. فإذا ما عاد لبنان ليكون أولويّة إقليميّة سيكون ريفي من السياسيين الذين سيجري التواصل معهم.
سادساً، خلطت الانتخابات البلديّة كل المعطيات في ما يخصّ الانتخابات النيابيّة، التي يُفترض أن تجري بعد نحو سنة. ومن الواضح أن مسار الأمور يتجه للإبقاء على قانون الستين، وهو القانون الذي يعتمد الأكثرية على صعيد القضاء. فأي دفع باتجاه القانون النسبي يُعد مغامرة غير محسوبة للقوى السياسيّة اللبنانيّة.
سابعاً، جاء خرق لائحة ريفي على حساب المرشحين المسيحيين والعلويين. فالمرشحون الذين نجحوا في الانتخابات، جميعهم سنّة. وهذا يُشير إلى وجود مناخ عند جزء من الناخبين بتشطيب المرشحين غير السنّة. وهو أمر يفرض على المجلس البلدي المنتخب العمل للحدّ من تأثيرات هذا الأمر.