وفيما تركّز اهتمام المتابعين على قضية الفصل بين العمل السياسي والدعوي، وهي مسألة مهمة دون شك، فإن قضايا أخرى لا تقل أهمية ستُطرح على طاولة المجتمعين، من بينها التغييرات الهيكلية، وموقع رئيس الحركة الجديد، بما يهيئ لمرحلة ما بعد الغنوشي.
وتتسم قراءة "النهضة" بواقعية سياسية شديدة ومباشرة لوضع الساحتين التونسية والإقليمية، وتشير إلى أن "المشروع السياسي للنهضة الذي يأتي في السياق الوطني العام ما بعد الثورة، يحاول أن يقدّم إجابات، بغض النظر عن الموقع المستقبلي للحركة، وبغض النظر عن علاقتها بالحكم، ولكنه يحرص على أن تكون الحركة في الموقع الفاعل والمؤثر الذي يؤخذ بعين الاعتبار في بلورة السياسات وصناعة القرار".
وتبدأ لوائح المؤتمر بتحديد الوضع الجديد من تقييم تجربة الحكم وصورة الحزب، وتقرّ بأنه "على الرغم من مساهمة النهضة بفاعلية في كتابة الدستور والتنازل عن السلطة مقابل إتمامه، وهو ما شكّل مكسباً تاريخياً وسياسياً، إلا أن تجربة الحكم على الرغم من الإيجابيات الحاصلة، كانت لها سلبيات عديدة على صورة النهضة، التي تأثرت من منهجها في الحكم، لجهة التردد وضعف الإرادة، لا سيما في مقاومة الفساد، وملفات أخرى، كالأمن والسلفية الجهادية وغيرها، بالإضافة إلى اتخاذها العديد من المواقف بشكل مرتجل مع غياب الكفاءة في بعض المواقع، ما جعلها في نظر قطاعات واسعة من الشعب غير مؤهلة للحكم، وبدا أداء الحركة في الحكم وكأنه لا يخدم استحقاقات الثورة". ويمثّل هذا الضعف، بحسب الورقة السياسية، إعاقة من شأنها أن تحد من إمكانيات التحالف والمشاركة والوجود في الحكم.
وتؤكد الاستطلاعات، بحسب الوثيقة، أن علاقة "النهضة" بالحكم كان لها تأثير سلبي على صورتها ومستوى قبولها الشعبي، وتأثير إيجابي عند مغادرتها للحكم إثر الحوار الوطني وبروز معنى التنازل من أجل المصلحة العامة. ولتلافي هذا الضعف، أوصت أوراق المؤتمر بضرورة العمل على إبراز قيادات كاريزماتية تحمل رؤية سياسية للبلاد، وتجسد الحلم التونسي، كما العربي، الذي لا يزال يميل كثيراً إلى القيادات الكاريزماتية أكثر من المؤسسات والأفكار. وتخلص إلى التوصية بأن تكون الشراكة في الحكم "قائمة على معادلة دقيقة ومتوازنة، وأن تكون وازنة، أي مهمة، فلا تهمّش ولا تؤدي إلى الهيمنة أو التفرّد فنُستهدٓف".
كما أشارت إلى ضرورة وضع استراتيجية تقوم على بناء خط سياسي على أساس التقاطع مع أوسع القوى السياسية والاجتماعية، وتوسيع دائرة الشراكة السياسية والتوافق على أساس دعم خيار الانتقال، ووضع القضايا التنموية وقضايا الشباب على رأس الأولويات، والانفتاح على إنتاج الأفكار والطاقات من الداخل والخارج.
وترى اللائحة السياسية أن التوافقات الوطنية ذات المصداقية، يمكن أن تجمع "العائلة الإسلامية الديمقراطية وعلى رأسها النهضة، والعائلة الدستورية الوسطية، والعائلة النقابية، خصوصاً الأطراف غير الأيديولوجية داخل النقابة، والمنظمات الوطنية، والقوى السياسية المعتدلة من العائلات الديمقراطية والقومية واليسارية". وفي السياق، أشار لطفي زيتون، في تصريح صحافي، إلى أن "الانتخابات الأخيرة حُسِمت على أساس الماضي وليس على أساس المستقبل، أما الآن فكلّ الانتخابات ستُحسم على أساس المستقبل، ومن سيجد الحلول للنّاس سيتوسع، فيما الحزب الذي لن يقدم حلولاً تقنع الناس سيختفي ويتفتت مهما كان حجمه".
توزيع السلطة
ألمحت أوراق المؤتمر إلى تعقّد المشهد المؤسساتي، ووصفته بالتنوّع والتعدد والتعقيد، وقالت إنه في غياب الانسجام والتوافقات الأساسية قد يتحوّل هذا التنوع والتعقيد إلى واقع يربك الأداء ويعطّل الإنجاز، في حين أن البلدان التي تبحث عن الانطلاق نحو النمو والازدهار تحتاج إلى تعبئة قواتها السياسية والاجتماعية.
هذا المشهد السياسي بات واقعاً بسبب ما وصفته اللائحة السياسية بهواجس التأسيس عند كتابة الدستور، بين الحرص على القطع مع الاستبداد الرئاسي، ومحاولة تفادي استبداد الأغلبية البرلمانية، وهو ما أدى إلى توزيع السلطة التنفيذية بين رئيسي الجمهورية والحكومة، ما أنتج علاقات معقدة قد تبرز إشكالياتها مستقبلاً، بالإضافة إلى ما سمته الانفجار المؤسساتي.
وعلى الرغم من تعالي بعض الأصوات، حتى من داخل "النهضة"، تطالب بضرورة إعادة النظر في العلاقة بين السلطات، فإن الورقة لم تعرض مقترحات على المُجتمعين في المؤتمر بهذا الخصوص. وكذلك بالنسبة إلى موضوع العدالة الانتقالية والمصالحة الشاملة، إذ تؤكد الورقة السياسية على أن العدالة الانتقالية التزام دستوري وسياسي وأخلاقي يجب الوفاء به، في حين أنها لم تتطرق إلى مبادرة الغنوشي حول المصالحة الشاملة والعفو العام.
المشهد الجيوسياسي ومخاطر الإرباك
تؤكد اللائحة السياسية لـ"النهضة" أن "الموقع الجيوسياسي التونسي يمثّل فرصاً مهمة لإنجاح المسار الديمقراطي واستقرار الأوضاع، لكن التجربة تظل مهددة من فضائها الجيوسياسي الخاضع لإعادة هيكلة عميقة، بما يقوي عناصر الهشاشة الداخلية الناتجة عن تبعات الثورة والمرحلة الانتقالية داخلياً، وتهديدات الجوار المغاربي الساحلي المضطرب بشكل دائم". وتضيف: "يأتي بروز أول مجتمع عربي ديمقراطي في تونس، ليعرّضها إلى استراتيجيات معادية لفاعلين إقليميين ودوليين، دولاً ومنظمات معادية للخيار الديمقراطي، وتبقى البلاد مفتوحة بهذا المعنى على احتمالين، الإرباك والتخريب، أو الدعم والتأمين".
وترجح قراءة "النهضة" استمرار تقدّم تونس نحو تثبيت المسار الديمقراطي، غير أن التعقيدات الكبيرة على المستوى الإقليمي والعربي والدولي خصوصاً، تجعل سيناريو ارتباك المسار وتدحرجه إلى مشهد تنهار فيه المؤسسات وتنكمش فيه هوامش الحريات ويضطرب فيه السلم الأهلي ليس مستبعداً على الإطلاق، ما يحتّم إدراك مخاطر هذا الانحدار وبالتالي بناء التصورات والخطط الاحتياطية.