من هذه الزاوية تحديداً، عاد "الأطلسي" إلى ثوابته التاريخية ومبرّره الوجودي كتكتل عسكري جماعي في مواجهة الخطر الروسي، وسيكون على الدول الأعضاء الـ28 أن يُظهروا وحدتهم وتماسكهم في مواجهة هذا الخطر، وإعداد استراتيجية واضحة المعالم ستكون محل نقاش مع الروس لمدة أربعة أيام بعد اختتام قمة وارسو في 13 يوليو/تموز الحالي في العاصمة البلجيكية بروكسيل.
وصبّت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الخميس الماضي، النار على الزيت، في خطاب أمام البرلمان، قائلة إن "تصرفات روسيا في أوكرانيا قوّضت الثقة المتبادلة مع الغرب وتثير قلق حلفائنا الشرقيين بشكل كبير". ولم تكتف ميركل بالتحذير بل رسمت معالم توافق "الأطلسي" في هذه القمة على بعث رسالة طمأنة للحلفاء الشرقيين في مواجهة التهديدات الروسية حين قالت، إنّ "الردع والالتزام الواضح بالتضامن مع شركائنا في الحلف عملاً بالمادة الخامسة من معاهدة الحلف، لا يتعارض مع مد يد الحوار بل إنهما متلازمان". بدوره، حثّ الرئيس الأميركي باراك أوباما قادة "الأطلسي" العسكري على الوقوف بحزم أمام روسيا بعد استيلائها على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.
وردّ الكرملين على لسان المتحدث باسمه، ديمتري بيسكوف، مستخفاً بهذه التحذيرات والتهديدات، قائلاً، أمس الجمعة، إنه يعتبر تلميح حلف شمال الأطلسي بأن روسيا تمثل تهديداً أمراً سخيفاً، وعبّر عن أمله في أن يسود المنطق السليم قمة الحلف المنعقدة في وارسو. وقال بيسكوف للصحافيين، "من السخيف الحديث عن أي تهديد يأتي من روسيا في وقت يموت العشرات في وسط أوروبا والمئات في الشرق الأوسط يومياً". وأضاف "لا بد من أن تكونوا كياناً قصير النظر للغاية حتى تلووا الأمور بهذا الشكل". وعبّر عن أمل موسكو في أن يسود المنطق السليم وتفهّم الحاجات حتى لا تحدث مواجهة. وأشار إلى أنّ "موسكو مستعدة للحوار والتعاون مع الحلف ولا ترغب في اعتباره عدواً". لكنه اشتكى من أن "جنود الأطلسي وطائراته تعمل بالقرب من الحدود الروسية. لسنا نحن من يقترب من حدود الأطلسي".
وفي سياق "فقدان الثقة" هذا بين "الأطلسي" وموسكو، من المتوقع أن تقرر هذه القمة نزولاً عند رغبة بولندا ودول البلطيق نشر أربع كتائب عسكرية متعددة الجنسيات تشارك فيها قوات من الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا. وتضم كل منها، من 600 إلى 1000 عنصر ينتشرون بالتناوب في كل من ليتوانيا، إستونيا، ولاتفيا، وبولندا، في إطار خطة ردع أطلسية لمواجهة خطر غزو روسي لإحدى هذه الدول.
وتأتي هذه المبادرة الردعية لتهدئة المخاوف من غزو روسي محتمل في ظلّ تقرير مخيف نشرته مؤسسة "راند كوربورايشن" للأبحاث الاستراتيجية، أكد أن روسيا لا تحتاج سوى إلى ستين ساعة على الأكثر للوصول إلى تالين وريغا، عاصمتي إستونيا ولاتفيا، وذلك على ضوء مناورات عسكرية أجرتها، أخيراً، القوات الروسية في كالينينغراد وبيلاروسيا، أظهرت قدرات عسكرية روسية متطورة. كما أن موسكو عززت، أخيراً، وجودها العسكري في بحر البلطيق وأصبح طيرانها ينتهك بانتظام المجال الجوي للدول الحليفة للحلف الأطلسي، خصوصاً إستونيا. وأعلنت موسكو، أخيراً، في بادرة استفزازية جديدة أن ثلاث فرق عسكرية سيتم إنشاؤها في جنوب غرب روسيا، وسينشر أسلحة جديدة للتصدي لتعزيز القدرات العسكرية الأطلسية في المنطقة.
والواقع أن الخاصرة الشرقية التي يطلق عليها "ممر سوفالكي"، والتي تمتد على طول 65 كيلومتراً بين بولندا وليتوانيا بغاباتها وبحيراتها، تحوّلت إلى كابوس للخبراء الاستراتيجيين في حلف الشمال الأطلسي، لكون هذه المنطقة المحصورة بين كالينينغراد وبيلاروسيا هي قليلة السكان وسهلة الاجتياح، وسيكون بإمكان الروس، إنْ قرروا احتلالها، قطع دول البلطيق عن أوروبا الشرقية. وهذا ما أقرّ به قائد القوات البرية الأميركية في أوروبا نفسه، الجنرال بن هوجيس، في حديث لصحيفة "دي تسايت" الألمانية قائلاً، إنّ "روسيا يمكنها اجتياح دول البلطيق بسرعة أكبر من قدراتنا على الدفاع عنها".
ولهذا السبب، ركّز "الأطلسي"، في العامين الأخيرين، على تنظيم مناورات دفاعية تضع نصب عينها السيناريوهات المحتملة في حال اندلاع نزاع عسكري مع روسيا وقيام هذه الأخيرة بإغلاق "ممر سوفالكي" بعملية برية من كالينينغراد أو بيلاروسيا أو عن طريق تدمير الطرق وسكك الحديد بهجمات جوية وقصف مدفعي.
وغالباً ما تتناول قمة "الأطلسي"، في مواجهة التحديات الروسية، مسألة الدرع الصاروخية التي يتم نشرها في أوروبا بمبادرة أميركية، والتي تثير غضب موسكو. ودشّن "الأطلسي" في مايو/أيار الماضي موقعاً للصواريخ الاعتراضية في ديفيسليو جنوب رومانيا، كما تم نشر رادار متطور في تركيا وأربع سفن حاملة للصواريخ في روتا بإسبانيا.
وتنظر هذه القمة في العلاقة بين "الأطلسي" والاتحاد الأوروبي على ضوء الهزّة الأخيرة التي أحدثها قرار الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي. هذا الزلزال البريطاني هو مثار محادثات يعقدها خلال القمة الرئيس الأميركي باراك أوباما مع رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك، ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر. ومن المعروف، أن بريطانيا وفرنسا تجسدان معاً القسم الأعظم من القدرات العسكرية للاتحاد الأوروبي، لذلك سيخسر الاتحاد هذا القسم بسبب الخروج البريطاني.
لكن في المقابل، تظلّ بريطانيا دولة رئيسية في "الأطلسي"، كما أنّها ستتولى العام المقبل الرئاسة الدورية للقوة المشتركة ذات الجهوزية العالية التي تضم 5 آلاف مقاتل والقادرة على الانتشار خلال 48 ساعة. ومن المنتظر، أن يؤكد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، الذي يحضر آخر قمة له، عزم بلاده على تثبيت نفسها "كطرف رئيسي محرّك داخل الحلف".