غريبة وشيّقة العلاقات التي تُنسَج، الآن، بين الرئيسين الأميركي، دونالد ترامب، والفرنسي إيمانويل ماكرون. كل شيء يدفعهما للتطاحن والنفور المشترك. ولكن السياسة تجترح المعجزات. فمن كان يتصور أن يستقبل ماكرون الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في قصر فيرساي، على الرغم من شبهات تحوم حول تدخل روسي في الانتخابات الفرنسية، إضافة إلى دعم سياسي ومالي من الروس لمارين لوبان؟ لا أحد، ربما، سوى ماكرون.
لا شيء مستحيلاً في السياسة. ليس فقط لأنها فن الممكن، أو فن الكذب، بل لأن قرارات صعبة تفرضها مصالح البلاد، أحياناً. مشكلة الرئيس الأميركي الكبيرة، إن اعتبر الأمر مشكلة، هو أن لغته ليست خشبية كما معظم الساسة. يقول كل ما يفكر فيه، بشكل تلقائي وسريع، ويستخدم "تويتر" بسرعة تفوق سرعة الظل، كما كان أسلافه، الذين يفتخر بهم، من رعاة البقر يستخدمون مسدساتهم، أيام زمان. من هو الرئيس الذي يجرؤ على قول: "فرنسا مكانٌ حزين"، ثم يستجيب، بشكل فوري، لدعوة الرئيس الفرنسي له، في لقائهما في هامبورغ، لزيارة هذا البلد "الحزين"، غير دونالد ترامب. ترامب، الذي يريد أن يعيد لأميركا مجدها الذي ضيعته سنوات سلفه باراك أوباما، كما يقول، سيكرس زيارة فرنسا لمدة يومين. لقاء حافل، مشاركة الحلفاء الفرنسيين عيدهم الوطني، وأيضاً الاحتفال بمناسبة عزيزة على الأميركيين، كل الأميركيين، وهي المئوية الأولى لانتشار القوات الأميركية على التراب الفرنسي، سنة 1917. ثم لقاء للرئيسَيْن، رأساً لرأس. وللمعدة إكراهاتها، عشاء الرئيسين مع زوجتيهما في أحد أفخم مطاعم فرنسا، "جيل فيرن"، في برج إيفل، إحدى عجائب العالَم.
يندُر في التغريدات واللقاءات الجماهيرية للرجل، الذي زار فرنسا مرات عديدة، أن يستثني هذا البلد من سخريته، وينتقد سياساته. نوعٌ من الهوس، ومزيجٌ من الفضول والنفور. ومن يَشَأ أن يغرف من تصريحاته المهينة لفرنسا، لا بد أن يتذكر ما قاله، بعيد اعتداءات 13 نوفمبر/تشرين الثاني الإرهابية التي ضربت باريس، وهي تصريحات أثارت إعجاب اليمين الفرنسي المتطرف، ومفادها أن فرنسا "لم تَعُد كما كانت في الماضي، وباريس أيضاً. ويسود انطباع بأنه توجد أحياء فيها خارج القانون". لكن بعضهم لا يرى في مواقفه عداءً لفرنسا، بل مجرد خيبة أمل من وضعية فرنسا الراهنة، وهذا ما يقوله أندري بيركوف، الصحافي الفرنسي الوحيد الذي التقاه الرئيس الأميركي، والذي ينقل عنه "أحب فرنسا، ولكني لا أفهم كيف أنكم لا تدافعون عن أنفسكم بشكل كاف". وعلى الرغم من إشادة ترامب بجهود الشرطة والدرك الفرنسيين إلا أنه انتقد "سهولة وصول الإرهابيين إلى موقع الهجوم".
ومن هنا فإنه استغل بشكل عميق اعتداءات باريس لكشف مواقفه وسياساته بخصوص الهجرة والأمن وحق المواطن في امتلاك السلاح. ولهذا يتعجب، عقب اعتداء 13 نوفمبر، من أن الفرنسيين لا يمتلكون أسلحة، ثم يذهب بعيداً، في يونيو/حزيران 2016، في لقاء جماهيري، فيزعم أن "فرنسا مكان حزين"، ويصل إلى الذروة، بعد اعتداء 14 يوليو/تموز 2016 في مدينة نيس، فيصرخ "إن فرنسا أصابتها عدوى الإرهاب. وهو خطأ الفرنسيين، لأنهم تركوا أشخاصاً يدخلون إلى أرضهم". وهذا الخليط من الفضول تجاه الفرنسيين ونفوره منهم، لا يمنع دونالد ترامب من عشق الأناقة الفرنسية، ومن اختياره لأسلوب قصر فيرساي الفرنسي في الديكورات الداخلية لإقاماته. وعلى الرغم من إشارات سلبية عن فرنسيين في ماضيه، وأيضاً عن رغبته في مجاراة سباق فرنسا للدراجات والتفوق عليه، إلا أنه لم يُخفِ، قبل ما يزيد عن 20 سنة، طُموحاته في تشييد بُرج في العاصمة الفرنسية، حلم جعله يتخيل عمدة مدينة باريس، حينها، وهو جان تيبري، يهرول لاستقباله مع الطاقم المساعد له. وحينها، أي سنة 1996، صرّح ترامب إن "باريس هي إحدى أجمل مدن العالَم. لو عثرت فيها على منتوج جيد، سوف أشتريه، وأطبع فوقه اسمي".
انتقاد الفرنسيين سهل وأيضا مفيدٌ لكسب أصوات الجمهوريين الأميركيين الغاضبين (لا يزالون غاضبين) من موقف فرنسا الرافض للحرب ضد العراق سنة 2003. وفي هذا الإطار يأتي قراره الانسحاب من اتفاق باريس العالمي حول المناخ، لأنه بكل بساطة، كما يقول: "لم ينتخبه سكان باريس". في كتاب له صدر سنة 1987، ينتقد ترامب الرئيس الفرنسي الراحل، فرانسوا ميتران، لأنه، كما يكتب "كشف عن كونه خطيراً جداً لأنه يبيع التكنولوجيا النووية لمن يدفع أكثر. ولا يمكن السقوط إلى هذا المستوى". ويضيف إن "رئيسهم (أي ميتران) متعجرف، وغبي، بشكل كامل، ويحاول أن يستعيد مكانه من خلال بيع التكنولوجيا النووية للجميع. إنها فضيحة، فضيحة". وهذا القلق من بيع فرنسا للتكنولوجيا النووية إلى بلدان أخرى شكل هاجساً لترامب، منذ ذلك الوقت، وقاده لأن يعتبر فرنسا "حليفاً ضعيفاً"، بل "كان الفرنسيون خلال سنوات حلفاء فظيعين. وكانوا غير أوفياء بشكل كبير، وأعتقد أن عليهم أن يتعلموا الاحترام ... أقول هذا، لأنه لا أحد فعل هذا من قبل".
ولكنّ كل هذه القراءات التي تقدّم أسباباً قد تفسر نفور الرجل من فرنسا والفرنسيين، والتي قد تدفع الكثيرين لكتابة مؤلفات، يعترض عليها الكاتب والصحافي الأميركي، رون روزنبام (صاحب مقال: حين حاول دونالد ترامب حرمان فرنسا من السلاح النووي)، حين يقترح البحث عن تفسير آخر: "إن ترامب رجل جاهل جداً وحريص على تحويل مصالحه إلى صفقات أسلحة. وفي واقع الأمر، لا أعتقد أنه يعرف، ببساطة، أن يفكر". لا شك في أن الرئيس الفرنسي يعرف كل هذا، وأكثر، عن ضيفه الأميركي. ولكن لا أحد في الغرب يستطيع أن يستغني عن الأخ الأكبر، خصوصاً أن الجار الروسي مصدر لكثير من الإزعاج للأوروبيين. ومن هنا لا شيء أفضل من التودد للرئيس الأميركي، وعبره للشعب الأميركي، فتحرُّر فرنسا من النازية دَيْنٌ في أعناق الفرنسيين، رغم مضي كثير من الزمن. ولهذا فالطبخ الفرنسي، وهو واحد من أفضل المطابخ في العالم، والشامبانيا التي تعشقها زوجة الرئيس الأميركي، ميلانيا، قد يستطيعان تلطيف الأجواء بين الزعيمين، ويجعلان فرنسا، خلال هذه الزيارة، تحظى بإطراء جديد، من قبل ترامب الذي قد يقول الشيء ونقيضه.
ويبدو أن الإسراع في الكلام، من أجل خلق السخرية والنكتة، هي عدوى انتقلت من ترامب إلى ماكرون. فالأخير صار صاحب السخرية من قوارب جزر القمر، "كواسا كواسا"، التي تستخدم في أجل الصيد ونقل مهاجرين إلى جزيرة مايوت، التي أصبحت فرنسية، وتسببت في غرق آلاف منهم، بالقول: "إنها تصيد قليلاً، ولكنها تحمل قُمريين" في إشارة إلى مواطني جزر القمر. وبعدها عاد الرئيس فتهجَّم على بطون وخصوبة نساء أفريقيا، باعتبارها مسؤولة عن التخلف في أفريقيا، حين قال "في بلد لا تزال المرأة تنجب فيه ما بين 7 إلى 8 أطفال، يمكنك أن تقرر صرف مليارات من اليورو، لكنك لن تستطيع فرض الاستقرار فيه". قد يتبادل الرئيسان بعض النكات الخفيفة، تحت مرأى ومسمع العالم، وقد يصوم الرئيس دونالد ترامب عن التغريد على "تويتر" لبضع ساعات، قبل أن يستبدّ به الحنين إلى تغريداته. لكنه يعرف أن بعض التحفظ وبعض التودد للفرنسيين سيجلب له، بالتأكيد، دعم حليف، لا يزال في حاجة إليه، مهما بلغت درجة نفوره، الحقيقي أو المصطنع، من فرنسا والفرنسيين.