"من سيكون الشخص التالي الذي نمشي في جنازته؟" تُثير هذه العبارة التي أطلقها أحد كوادر حزب "الدعوة" الإسلامية في العراق، ويدعى عبد الزهرة محمد، في تعليقه على لقطات مصورة تُظهر رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، وهو يضحك مع آخرين أثناء جنازة السياسي الراحل أحمد الجلبي، والذي شُيّع من مبنى البرلمان إلى مثواه الأخير، علامات استفهام حول حقيقة وضع الشخصيات العراقية التي ساعدت الولايات المتحدة على احتلال بلادها وأعطت الشرعية لاحتلال تسبب بمقتل وفقدان وإصابة أكثر من مليون عراقي، وخلق خمسة ملايين يتيم وأرملة، وشرّد تسعة ملايين آخرين ونشر الإرهاب والتخلف والفساد.
اقرأ أيضاً: أحمد الجلبي... عراب الاحتلال الأميركي والتحالفات العراقية
وسلّط موت الجلبي الأضواء على تلك الشخصيات، والتي تحوّلت إلى مصدر جدل في الشارع العراقي؛ فمنهم من رأى فيهم خونة، ساعدوا في تدمير العراق، ومنهم من رأى فيهم أبطالاً ساهموا في تخليصهم من نظام شمولي. فيما ذهب فريق ثالث إلى اعتبار تلك الشخصيات مجرد أدوات أو غطاء تم استخدامهم كمناديل سرعان ما انتفت الحاجة إليهم وتساقطوا الواحد تلو الآخر.
ولم يبق الكثير من أولئك الذين قدموا مع الدبابة الأميركية، داخل السلطة الفعلية في العراق؛ فمن بين 25 شخصية سياسية دخلت العراق واختيرت من قبل واشنطن لتشكيل ما عرف حينها بمجلس الحكم الانتقالي، تستمر سبع شخصيات فقط في تولي مناصب مهمة في الدولة، ولو بشكل يوصف بالمترنح.
الموت
وغيّب الموت ستة من أبرز تلك الشخصيات، سواء عبر الاغتيال أو المرض أو الوفاة بشكل مثير للجدل. وهؤلاء هم أحمد عبد الهادي الجلبي المعروف باسم عرّاب الاحتلال، والذي توفي في منزله بأطراف بلدة الكاظمية شمالي بغداد ليلة الثلاثاء الماضي. وبحسب صديقه المقرّب عزة الشابندر، فقد وجد ميتاً على كرسيه الهزاز حاملاً هاتفه بيده. أنهى الجلبي حياته في العامين الأخيرين ضمن دائرة تهميش واضحة، بعدما بات ورقة محترقة بالنسبة لواشنطن، ومرفوضاً بالنسبة لطهران، يكتفي بمقعد في البرلمان وصفحة على موقع "فيسبوك"، غلبت عليها انتقاداته الحادة لما آل إليه الوضع في العراق، ومواضيع حول ملفات فساد السياسيين وأبرزهم نوري المالكي الذي كان يناصبه العداء بشكل علني.
محمد بحر العلوم، وهو الرئيس الدوري الثاني لمجلس الحكم في العراق عقب الاحتلال بعد الجلبي. عُرف عن الرجل طرحه الوطني ومحاولة تضييق الهوة الطائفية التي خلقتها السياسة الأميركية بالبلاد. توفي في مدينة النجف بسبب فشل كلوي عن عمر ناهز الخمسة والسبعين عاماً بعد فشله في نيل أي مكسب سياسي خلال انتخابات عام 2008 و2010 و2014.
عقيلة علي حسين الهاشمي. توفيت متأثرة بجراح أصيبت بها أثر عملية اغتيال تعرضت لها ببغداد في سبتمبر/أيلول 2003. عز الدين سليم أو عبد الزهرة عثمان محمد، الرئيس الدوري الرابع لمجلس الحكم الانتقالي في العراق. واحد ممن شاركوا في مؤتمر واشنطن قبيل احتلال العراق، وساهم في برنامج إقناع قادة الجيش العراقي السابق بعدم القتال، غير أنه فشل في ذلك حينها. اغتيل في 17 مايو/أيار 2004 بتفجير سيارة مفخخة تزامنت مع مرور موكبه في حي الحارثية قرب أحد مداخل المنطقة الخضراء.
عبد العزيز الحكيم، أحد مؤسسي مليشيا "بدر" بالعراق، وزعيم التحالف الوطني العراقي منذ تأسيسه. توفي في أغسطس/آب 2009 بمستشفى في العاصمة الإيرانية طهران، بسبب السرطان. محمد باقر الحكيم، اغتيل في محافظة النجف بعد دخوله العراق قادماً من إيران منتصف عام 2003 بعملية إرهابية نفذها تنظيم "القاعدة" في حينها.
إلى المنفى.. الاختياري
وبالنسبة للذين اختاروا العودة إلى المنفى، فإن أبرزهم السياسي المخضرم عدنان الباججي ومحسن عبد الحميد وغازي عجيل الياور ونصير الجادرجي وسمير الصميدعي وحميد مجيد موسى. يقضي هؤلاء أيامهم في دول المنفى التي اختاروها سابقاً إبان حكم الرئيس الراحل صدام حسين. وتتناول وسائل الإعلام أخبار وصولهم لبغداد بين الحين والآخر، في زيارات يمكن وصفها بالثانوية بسبب فشلهم في الحصول على مناصب أو عدم رضاهم عما آلت إليه الأمور.
طريح فراش الموت
كذلك يقعد المرض قيادات بارزة أخرى كالرئيس السابق جلال الطالباني، ومستشار الأمن الوطني السابق إبان الاحتلال موفق الربيعي، وعلي ابن الشريف الحسين، وريث العرش الملكي السابق بالعراق، والذي أطاح به الجمهوريون منتصف القرن الماضي.
مهمّشون
وهناك آخرون، أُطيح بهم سياسياً. أمثال أحمد شياع البراك، عضو مجلس الحكم، والرئيس الدوري الثامن له. وجلال الدين الصغير وعبد الكريم المحمداوي، المعروف باسم أمير الأهوار، وسلامة الخفاجي ومحمود عثمان ووائل عبد اللطيف ويونادم كنا ورجاء الخزاعي وسنغول جابوك، وصلاح الدين بهاء الدين، وسعدون الدليمي وحاجم الحسني وحازم الشعلان وعزة الشابندر. فشل جميع هؤلاء خلال الدورات الانتخابية الثلاث الماضية في تحقيق أي إنجاز باستثناء حصول بعضهم على مقعد داخل البرلمان. ويتولون حالياً مناصب استشارية في وزارات مختلفة، أو مقاعد برلمانية. فيما اكتفى بعضهم بالاستفادة من قانون "الخدمة الجهادية"، والذي صنف جميع المعارضين لحكم صدام حسين به، وصُرفت لهم مرتبات تقاعدية شهرية ساعدتهم على العيش خارج العراق.
مترنّحون
في المقابل، يترنح كل من إياد علاوي ونوري المالكي، نائبي رئيس الجمهورية الحالي، ورئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، إذ أدت الإصلاحات السياسية الأخيرة لرئيس الحكومة حيدر العبادي إلى إزاحتهم. بينما تستمر أزمة الرئاسة بكردستان بسبب إصرار كتل سياسية كردية على تسليم البارزاني كرسي الرئاسة بعد انتهاء مدتها الدستورية.
اقرأ أيضاً: العبادي يرد على البرلمان العراقي: مستمرون في الإصلاحات
ويقول المستشار الإعلامي لمجلس الحكم الانتقالي السابق الذي أسسه الأميركيون في بغداد عام 2003 أحمد الصباغ، في حديث هاتفي لـ"العربي الجديد"، من مقر إقامته في العاصمة التشيكية براغ، إنه "لم يخطط أحد لتلك النهاية. ولم نتخيلها أصلاً، إنها مخيبة فعلاً. العراق الآن سيئ جداً. والناس الذين كانوا يؤيدوننا، باتوا غاضبين علينا".
ويضيف "(الرئيس العراقي الراحل) صدام (حسين) كان مجرماً والتخلص منه كان ضرورة. لكن نحن من دفعنا العراقيين الآن، سنة وشيعة، إلى الترحم عليه وعلى أيامه".
ويتابع "اتصل كل شهر أو شهرين بعدد من الذين شاركوا في مؤتمر لندن قبيل الاحتلال أو مؤتمر واشنطن بعده بأيام، وأعلنوا خلالها مباركتهم لاحتلال الولايات المتحدة للعراق. بعضهم نادم جداً. بل إن أحدهم (لم يسمّه)، اشتكت لي زوجته في حفل زفاف ابن صديق مشترك لنا، أنّه لا يخرج من بيته ويخشى من نظرات الناس إليه". ويضيف "كانوا يتوقعون شيئاً أفضل للعراق، وأنهم سيكونون مُحررين للشعب، لكن لم تتحقق طموحاتهم".
وفي الإطار، يقول أحد أبرز قيادات مجلس الحكم الانتقالي في اتصال مع "العربي الجديد"، مفضلاً عدم نشر اسمه: "لست آسفاً على المساهمة في تأييد أو مباركة احتلال بلدي، لأنه كان قراراً محسوماً من الغرب. وكان يجب التخلص من صدام. لكنني آسف لسوء تصرفنا. نعم لقد تمزّقت البلاد، وتخلفت وسادت الفوضى فيها". ويبيّن أنّ غالبية الشخصيات التي ساهمت بهذا الاحتلال بدأت بكتابة مذكراتها الشخصية خوفاً من أن تظلم من قبل المؤرخين عن هذه الحقبة"، على حدّ وصفه. ويؤكّد أن الكثير من الشخصيات "وقعت ضحية تنافر العلاقة والمصالح الأميركية والإيرانية بالعراق فسقطت سريعاً"، وفقاً لقوله.
في الفترة الأخيرة، رفعت يافطة عريضة من قبل متظاهرين في ساحة التحرير وسط بغداد ينددون بالفساد والبطالة ويطالبون بإصلاح منظومة الحكم وإدارة الدولة العراقية بعد 13 عاماً من الاحتلال. يقول عنها الناشط المدني حسين الموسوي إنها الأكثر تنكيلاً بالسياسيين العراقيين الحاليين، إذ كتب أحدهم في اليافطة (يقول غسان كنفاني: من يخون وطنه وأهله يشعر بالبرد دوماً وهو حي. وعندما يموت يستمر شعوره بالبرد تحت التراب).