ويأتي الجدال الجديد، في ظلّ زوبعة إقرار قانون "تسوية الاستيطان"، لتفادي إزالة 8 بيوت في مستوطنة "عمونا"، مع العلم أن تصريحاً هامشياً نُسب إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، مفاده بأن "الحكومة الإسرائيلية لن تمضي قدماً في تشريع قانون تسوية الاستيطان لأنها تعمل على إيجاد حل بديل".
لكن ليبرمان، المتمتع بموجب القانون الإسرائيلي بصلاحيات إقرار بناء مستوطنات جديدة، أو السعي لتنفيذ أوامر قضائية طالما تعلقت بالأراضي الفلسطينية المحتلة (ومنها داخل المستوطنات الإسرائيلية)، أكد مراراً أن "لا مفر في نهاية المطاف من تنفيذ أمر المحكمة بإزالة بيوت مستوطنة عمونا، ضمن الموعد الأخير الرسمي المحدد وهو 25 ديسمبر/كانون الأول المقبل".
ولم يترك ليبرمان مجالاً للتكهنات عندما أعلن أمام المراسلين السياسيين، أن الهدف الأهم في المرحلة الحالية، بالنسبة لإسرائيل هو ضمان التوصل إلى تفاهمات مع إدارة الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، بما يضمن إحياء الالتزام الأميركي تجاه "الكتل الاستيطانية الإسرائيلية" وإبقاءها تحت السيادة الإسرائيلية في كل حل مستقبلي مع الجانب الفلسطيني.
وقد فسرت حكومة إسرائيل تحت قيادة شارون رسالة بوش المذكورة أعلاه، في حينه، بأنها تعني التزاماً رسمياً واعترافاً أميركياً ببقاء الكتل الاستيطانية. غير أنه تبيّن لاحقا أن إدارة بوش، وخلال الفترة الانتقالية بين الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2008 وانتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، لم تترك وديعة أو توصيات تضمنت التوصل إلى تفاهمات رسمية مع حكومة إسرائيل. وهذا ما جعل إدارة أوباما، تتنكر كلياً لرسالة بوش.
وكان موضوع إعادة إحياء الالتزامات الأميركية، بروح رسالة بوش، قد طرح مباشرة مع انتخاب ترامب. في هذا الصدد، أشار كل من رئيس مركز أبحاث الأمن القومي الحالي عاموس يادلين، ورئيس مجلس الأمن القومي السابق غيورا أيلاند، إلى أن "المهمة الأبرز في سياق إعادة الثقة للعلاقات مع الإدارة الأميركية الجديدة، تستوجب أولاً التعامل بشفافية مطلقة وعدم مفاجأة إدارة ترامب بأي شكل".
وشكّلت هذه الدعوات أساساً أيضاً لتصريحات ليبرمان، منذ اللحظة الأولى لانتخاب ترامب، التي دعا فيها إلى الحدّ من حالة النشوة والابتهاج التي سادت في صفوف اليمين الإسرائيلي ككل، وصفوف التيار الديني الصهيوني. كما تُمثل تصريحات زعيم حزب البيت اليهودي نفتالي بينيت، الذي اعتبر أن "انتخاب ترامب يعني نهاية حل الدولتين"، بمثابة فرصة لإسرائيل لتكثيف البناء الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة. مع ذلك، ذكرت الإذاعة الإسرائيلية، أن بنيامين نتنياهو عازم على إجراء مباحثات مع الوزراء وشركائه في الائتلاف الحكومي لبلورة المواقف الإسرائيلية التي ستعرض على إدارة ترامب.
وما يعزز حقيقة أن هذا هو الاتجاه السائد في صفوف الحكومة الإسرائيلية، بعيداً عن زوبعة قانون تسوية المستوطنات بشأن "عمونا" باعتبار أن الأمر عبارة عن مزايدات بين الليكود برئاسة نتنياهو وبين البيت اليهودي، خشية خسارة أصوات المستوطنين في الضفة الغربية، هو التصريح الذي أدلى به رئيس مستوطنة "أريئيل"، جنوب نابلس، أوريئيل شبيرو، للإذاعة الإسرائيلية، عندما أعلن أن "ما يطرحه ليبرمان هو الأمر المهم بالنسبة لإسرائيل، وأنه يفوق في أهميته مسألة إزالة ما تصفه إسرائيل بالبؤر الاستيطانية غير القانونية، لأن نتيجته ستكون تثبيت بقاء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية في أي حل مقبل".
ويخفي مصطلح الكتل الاستيطانية في طياته تضليلاً كبيراً بما يتعلق بالكتل الاستيطانية، إذ إن الحديث في الواقع هو عن عدد من المستوطنات الكبيرة، كانت بنيت في بداية السبعينات والثمانينات، ونمت لتصبح شبيهة بالمدن لناحية تعداد سكانها. كما تمّ لاحقاً إقامة مستوطنات صغيرة في محيط هذه المستوطنات، من دون أن تشكل الصغيرة مع الكبيرة تواصلاً جغرافياً متماسكاً، لكن إسرائيل بدأت تستخدم هذا المصطلح بعد اتفاق أوسلو الذي أرجأ موضوع المستوطنات ومستقبلها، الكبيرة منها والصغيرة إلى مفاوضات الحل الدائم.
مع العلم أن المصطلح جاء أصلاً على لسان أحد رموز اليسار الصهيوني، الناشط في حينه في حركة السلام الآن، دادي تسوكر، عندما كان نائباً عن حركة ميرتس في الكنيست في حكومة رابين. وأعلن أن "بعض المستوطنات الكبيرة (مثل أريئيل، ومعاليه أدوميم، وجفعات زئيف) ستبقى بعد الاتفاق مع الجانب الفلسطيني كجيوب إسرائيل في الدولة الفلسطينية".
وكانت حكومة رابين قد كثفت عمليات الاستيطان داخل هذه المستوطنات بعد اتفاق أوسلو (1993)، لكن بعد اغتيال رابين (4 نوفمبر/تشرين الثاني 1995)، وعلى الرغم من التوقيع على اتفاق الخليل (1997) في حكومة نتنياهو الأولى (1996 ـ 1999)، كان مصير المستوطنات الإسرائيلية غير محسوم. كما أن مصطلح "الكتل الاستيطانية" لم يكن قد تطور في الخطاب الإسرائيلي المتعلق باتفاقيات الحل الدائم، ليعطي الدلالات التي يحملها اليوم، خصوصاً بعد إقامة جدار الفصل العنصري.
أما في شأن الأهداف التي تتوخى إسرائيل تحقيقها من زوبعة "عمونا"، فقد كان مسلماً به، حتى ما قبل ثلاثة أسابيع، لدى قادة المستوطنين وزعيم حزب البيت اليهودي، نفتالي بينيت، أنه "لا مفر من تنفيذ أمر المحكمة الإسرائيلية بإخلاء المستوطنة المذكورة". لكن هذه الزوبعة أسست عملياً في الوعي الإسرائيلي، أرضية لـ"حلول" قضائية وسياسية، تسعى حكومة نتنياهو للوصول إليها لتفادي هدم وإزالة أكثر من 3000 بيت أقيم داخل المستوطنات الإسرائيلية على أراض فلسطينية خاصة.
ومن الحلول، دراسة فكرة استخدام أكثر من 45 قطعة أرض محاذية لمستوطنة "عمونا"، تابعة لفلسطينيين من سكان عين يبرود والطيبة وسلواد، لإقامة مستوطنة بديلة عليها، انطلاقاً من كونها "أراضي متروكة". وبالتالي يمكن استخدامها وإيداع رسوم استئجارها في صندوق ائتمان، لحين التوصل إلى اتفاق سلام ودفع عوائد الإيجار لأصحابها الأصليين. لكن سرعان ما تبين بعد نشر بيان عنها في الصحف الفلسطينية، أن أصحاب الأراضي موجودون ويعيشون في القرى المذكورة.
ولأن الحديث هو عن أراض داخل الضفة الغربية، فإنه لا ينطبق عليها بالتالي تعريف "أملاك غائبين"، ولن يكون بمقدور الدولة مصادرتها وتحويلها لأراضي دولة، أو أراض تقع تحت صلاحيات القيم على أملاك الغائبين وتأجيرها للمستوطنين. ذلك لأن القانون الإسرائيلي غير نافذ في الضفة الغربية، والتعريف الصحيح لهذه الأراضي بحسب القوانين العسكرية المعمول بها هو كونها أراضي متروكة، يمكن لأقارب أصحابها من الدرجة الأولى (أخوة أو أبناء) الطعن بملكيتهم لها.
ومن الحلول أيضاً، تلك المتعلقة بتصريحات أدلت بها وزيرة العدل أيليت شاكيد، عند طرح قانون تسوية المستوطنات للتصويت عليه بالقراءة التمهيدية، عندما قالت إن "المحكمة أصدرت قرارها بموجب واقع قانوني قائم، واليوم فإن الكنيست هي صاحبة السيادة في تغيير الوضع القانوني القائم، وترسيخ منظومة قانونية جديدة تبطل القرارات السابقة، أو الأحكام التي كان يمكن توقعها لحالات مشابهة في المستقبل". في إشارة منها إلى مصير الثلاثة آلاف بيت الكائنة في مستوطنات أخرى على أراض خاصة، ما يتيح للمحكمة الحكم لصالح بقائها مقابل فرض التعويض المالي أو التعويض بأراض بديلة لأصحاب الأراضي الأصليين.
أما الحل الأخير فيقوم عملياً على التحايل على القانون الدولي، وتغيير تعريف المستوطنين من مجرد "مواطنين إسرائيليين في المستوطنات" إلى "سكان محليين"، بما يغير طبيعة مكانتهم وفق القانون الدولي لجهة تفادي قرار دولي بإخراجهم من الأراضي المحتلة في حال قبلت المحكمة الدولية، إذا عرض الأمر عليها بتعريفهم كـ"سكان محليين".