بعد يوم سوداني عصيب، عادت الحياة إلى طبيعتها، أمس الأربعاء، في العاصمة الخرطوم، عقب تمرّد مسلح نفّذته هيئة العمليات بجهاز المخابرات، واتهم المدير السابق للجهاز، والرجل القوي في عهد عمر البشير، صلاح قوش، بتدبيره. وعلى الرغم من أنّ هذا التمرّد، والذي انطلق الثلاثاء بذريعة مطالبة عناصر الهيئة بمستحقاتهم المالية عقب حلّ الهيئة وتسريح أفرادها، انتهى فجراً بإعلان السيطرة على جميع المقرات وسحق المتمردين من دون الكشف عن حصيلة الضحايا بينهم، إلا أن المخاوف كبيرة من تداعياته واحتمال أن يقود في مرحلة لاحقة إلى محاولة انقلابية، لا سيما مع الغموض حول من نفذه على الأرض، مع غياب أي معلومة حول أسماء المشاركين فيه، ليبقى اسم قوش هو الوحيد المتداول بعد اتهام نائب رئيس المجلس السيادي، قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، له بالوقوف حول ما جرى.
كذلك تتعزز المخاوف نظراً لأهمية قوش ونفوذه وجهاز المخابرات العامة في السنوات على الرغم من تقليص أدواره في مرحلة ما بعد الثورة. ولطالما كان دوره الأساس يتمثل في حماية نظام البشير، بما تضمنه ذلك من تنفيذ اعتقالات المعارضين. وفي عام 2004 تم دمج جهاز الأمن مع جهاز المخابرات ليشكّلا جهازاً واحداً باسم الأمن والمخابرات وتم تعيين الفريق صلاح قوش مديراً له، فتوسعت صلاحيات الجهاز الذي أعطي حتى صلاحيات تشكيل قوات قتالية فأسس الجهاز إدارة هيئة العمليات والتي شاركت في الحرب في عدد من الجبهات القتالية، سواء في دارفور أو جنوب كردفان أو النيل الأزرق.
وبعد نجاح الثورة طالب الثوار بحل جهاز الأمن والمخابرات باعتباره امتداداً لنظام البشير، فكان أن جاء القرار من المجلس العسكري في يونيو/ حزيران الماضي بتعديل قانون الجهاز بما يحصر مهمته في جمع وتحليل المعلومات فقط وإعادة هيكلة طبقاً لتلك المهمة، مع تغيير اسمه من جهاز الأمن والمخابرات لجهاز المخابرات. وتم حل هيئة العمليات وتخيير عناصرها المقدرة أعدادهم بأكثر من 10 آلاف عنصر ما بين الانضمام إلى الجيش السوداني أو الدعم السريع أو التقاعد الاختياري فاختارت الغالبية التقاعد، شريطة الحصول على استحقاقات مالية مجزية بعد نهاية خدمتهم، وكان ذلك مدخلاً لتمردهم أول من أمس الثلاثاء.
وعقب إعلان انتهاء التمرد، ظهرت تطمينات من مختلف الأطراف، العسكرية والمدنية، بأنّ الوضع عاد إلى طبيعته، وأنّ مسار الثورة متواصل، إلا أنّ لهذه الأحداث تداعيات على وضع السودان، وتضعه أمام تحديات كبيرة، خصوصاً أنها لا تزال في المرحلة الانتقالية نحو دولة المؤسسات والحكم المدني، ولعلّ أبرز المخاوف من أنّ تؤثّر هذه الأحداث على هذه المرحلة واستكمال مسار الثورة، في ظلّ محاولات النظام السابق التشويش على هذا المسار وعرقلته.
وبناءً على التمرّد، والذي شهدت العاصمة على إثره ما يشبه حالة طوارئ، قدّم مدير جهاز المخابرات، الفريق أول أبوبكر دمبلاب، استقالته، بحسب ما أعلن رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، في تصريحات صحافية أمس، موضحاً أنّ هذه الاستقالة قيد النظر. وأعلن البرهان عن "تشكيل لجنة تحقيق ستبحث في من قام بالتخطيط والتحريض على عملية التمرّد"، مضيفاً أنّ "هناك أطرافاً مختلفة تحاول عرقلة مسيرة الثورة في السودان، وهي تخدم الدولة العميقة".
ولفت البرهان إلى أنّ "القوة التي قامت بمحاولة التمرد، كان لديها عدد كبير من الأسلحة، بينها مضادات طائرات"، مضيفاً: "قواتنا تعاملت بشكل ملائم مع تحرك المتمردين ومقاومتهم كانت محدودة".
وكان البرهان قد تعهد في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الحكومة عبد الله حمدوك، صباح أمس الأربعاء، بمنع حدوث انقلاب في السودان، مؤكداً أن "كل مباني المخابرات باتت تحت سيطرة الجيش". وأكد البرهان أنّ "القوات المسلحة لن تسمح بأي انقلاب على الشرعية الثورية".
اقــرأ أيضاً
بدوره، قال حمدوك إنّ "ما حدث هو فتنة قصد منها قطع الطريق على تطور هذا الشعب والانتقال إلى بناء ديمقراطية راسخة". وأشاد حمدوك بدور "القوات المسلحة والدعم السريع لجهودها في إجهاض الفتنة"، التي شهدها السودان الثلاثاء، مؤكداً أنّ "القوات النظامية ستظلّ متماسكة بكل مكوناتها صفاً واحداً لحماية الفترة الانتقالية إلى أن تبلغ مبتغاها".
من جهته، وصف رئيس الأركان السوداني، الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين، ما حدث من هيئة العمليات بجهاز المخابرات العامة، بـ"التمرد العسكري". وأشار في تصريحات صحافية له أمس إلى قرار باقتحام المقرات بأقل قدر من القوة وبشكل متزامن، مضيفاً: "تم تنفيذ الخطة واستلمت القوات المسلحة وقوات الدعم السريع جميع المواقع". وكشف عن مقتل اثنين من القوات النظامية وجرح 4 آخرين، من بينهم ضابطان، في عملية الاقتحام. لكن برز صمت عن تحديد حجم الخسائر وسط أفراد هيئة العمليات، وهو أمر يتوقع البعض أن يكون كبيراً نسبة لحجم الأسلحة التي استخدمت في فضّ التمرد.
ولم يسلم المدنيون كذلك من آثار هذا التمرّد الأمني، إذ أعلنت لجنة أطباء السودان المركزية (غير حكومية)، أمس، عن مصرع ثلاثة أفراد من أسرة واحدة بمنطقة سوبا جنوب شرقي الخرطوم؛ جرّاء سقوط قذيفة على منزلهم. وسبق أن أعلنت اللجنة الثلاثاء عن إصابة شاب (15 عاماً) بعيار ناري خلال أحداث التمرد في الخرطوم.
وكانت محاولات التوصل إلى حلّ سلمي قد فشلت في الساعات الأولى من الحدث، بعد تدخل كبار ضباط المخابرات المتقاعدين. وربما فضلت السلطات الحكومية خيار الحسم العسكري أكثر من غيره، كونه يعطي صورة مختلفة عن تلك التي رسمت عنها في الفترات السابقة، بالتهاون في شؤون أمنية مهمة، ولإيصال رسالة بعدم التهاون مع الانفلاتات الأمنية التي تحدث أثناء الفترة الانتقالية. كذلك حرصت على أن تكون العملية مشتركة بين الجيش وقوات الدعم السريع وبعض وحدات الشرطة، حتى تعطي انطباعاً عن وحدة القوات النظامية وعملها كمنظومة واحدة.
سياسياً، يبدو أنّ المكونين العسكري والمدني في الحكومة عمدا إلى استثمار الحدث لتأكيد الشراكة بينهما لإكمال مهام الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير في إبريل/ نيسان الماضي. وما يدلل على ذلك هو وجود رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، وقيادات تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير"، في غرفة العمليات بمقر القيادة العامة للجيش، جنباً إلى جنب مع البرهان، في أثناء إدارته العمليات.
لكن البعض تخوّف من أن تكون تلك الرسالة التي أرادت الأطراف إرسالها محاولة لتسويق المكون العسكري وسط الثوار، الذين لديهم تحفظات كبيرة عليه، ويتحفظون على دوره منذ فضّ اعتصام محيط القيادة العامة للجيش السوداني في يونيو/حزيران الماضي، والذي راح ضحيته أكثر من 100 من المعتصمين، بالتالي تعاملوا مع الرسالة بحذر شديد.
كما أنّ نائب رئيس مجلس السيادة، قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، حاول هو الآخر، عبر مؤتمر صحافي، تسويق نفسه كحامٍ للثورة، وقدم إشارات على أن جهاز المخابرات الذي تمردت هيئة عملياته الثلاثاء هو الجهاز ذاته الذي قد يكون تورط في أحداث القتل في أثناء فضّ الاعتصام.
لكن الذي كان لافتاً أكثر في حديث دقلو للمرة الأولى هو تصعيد المواجهة مع النظام السابق الذي ينشط هذه الأيام في تسيير مواكب ضد الحكومة الحالية، والتصويب على قوش الذي يوجد في مصر. ويبدو أن حالة التقارب التي كانت قائمة بين دقلو وأركان نظام البشير الذي كان واحداً منهم في طريقها إلى التلاشي، وربما تصل إلى حدّ المواجهة، سواء بزيادة عدد المعتقلين من رموز النظام السابق أو منع التظاهرات الجديدة التي أعلن عنها في كل من ولاية غرب كردفان والعاصمة الخرطوم في يومي 18 و26 من الشهر الحالي. ويسعى دقلو من خلال تلك المواجهة إلى إعادة الودّ المفقود بينه وبين الثوار منذ حادثة فض اعتصام القيادة العامة.
على صعيد الأحزاب السياسية الشريكة في "تحالف الحرية والتغيير"، أصدر "حزب البعث السوداني" بياناً دان فيه الأحداث "غير المسؤولة"، وأكد أنّ "الثورة ماضية إلى تحقيق أهدافها، على الرغم من تعدد المهددات، بما فيها محاولات قوى الردة التي تهدف إلى عرقلة المسيرة". واتهم الحزب المؤسسات الأمنية بـ"التراخي مع جهاز المخابرات، ما أدى إلى ارتكاب أخطاء إدارية جسيمة، جعلت من موضوع المستحقات المالية ذريعة لإشهار السلاح، فضلاً عن ترك السلاح في يد قوات تمّ تسريحها وهي بصدد استلام مستحقاتها".
ورفض الحزب القبول بفرضية أنّ هذه القوات تمردت بسبب المستحقات المالية، خصوصاً أنّ جهات عليا أعلنت أنها سبق أن حذرت مدير جهاز المخابرات مما يدور في أروقة هذه القوات، واتهمته بالتقصير في معالجة الوضع. وطالب الحزب بإنفاذ ما قررته الوثيقة الدستورية بتبعية جهاز المخابرات، وتمكين رئيس الوزراء من الإشراف عليه وهيكلته، وتكليفه بالمهام المنصوص عليها في الوثيقة.
وتعليقاً على هذه التطورات، رأى المحلل السياسي، عبد الماجد عبد الحميد، أنّ ما حصل "يعدّ دليلاً واضحاً على الارتباك في المؤسسة الأمنية الحالية، كما أنه يبين عدم اهتمامها بما يجري أو سيحدث، حتى ولو كان ذلك عصياناً عسكرياً".
وأضاف عبد الحميد، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "أجهزة الرصد سواء في الاستخبارات العسكرية، أو في جهاز المخابرات، لم تهتم في الأيام الماضية بما يدور في هيئة العمليات، نسبة لشعور أفرادها بالتهميش، مقابل اهتمام آخر تجده استخبارات قوات الدعم السريع". وأشار إلى أنّ "لا مبالاة تلك الأجهزة تمثّل مؤشراً أمنياً خطيراً يفاقمه تعالي الأصوات بحلّ جهاز الأمن الحالي، وإنشاء آخر بديل". ورجّح حدوث ذلك في الفترة المقبلة "لا سيما مع اهتزاز صورة الأمن الحالي، وتعرضه لإهانات بالغة، خصوصاً من المكون العسكري وتحديداً حميدتي".
وتوقّع عبد الحميد "تكرار ما حدث أخيراً في مؤسسات أخرى". كذلك أكد أنه حسب معلوماته "هناك حملة اعتقالات واسعة في صفوف ضباط المخابرات، ربما تحدث ردة في الاحتجاج". وأشار إلى أنّ "البلاد موعودة بقبضة حديدية بواسطة قوات الدعم السريع على حساب الشقّ المدني في الحكومة".
غير أنّ القيادي في قوى "الحرية والتغيير"، كمال بولاد، أوضح في حديث لـ"العربي الجديد" أنّ ما حدث "يعكس طبيعة التشوهات التي حدثت في المؤسسات كافة، في ظلّ النظام السابق، وعلى رأسها مؤسسة الأمن والاستخبارات، التي هي في كل العالم تختصّ بجمع المعلومات وحماية الأوطان من الاختراقات الاستخباراتية الأجنبية، لكن في سبيل استمراره في السلطة، حوّل النظام السابق تلك المؤسسات لمليشيات وجيوش بإمرة حزب استخدمتها لحمايته، ما أدى إلى تضخمها وبروز التشوهات الكبيرة في المنظومة الأمنية".
وأضاف بولاد أنّ "قوى الثورة انتبهت لذلك، وعالجته في الوثيقة الدستورية بصورة تعيد جهاز الأمن لطبيعته الاستخباراتية الوطنية"، مشيراً إلى أنّ "ذيول النظام السابق حالت دون اكتمال الإصلاح، إذ حدث تلكؤ كبير". وشدد بولاد على "أهمية تعيين إدارة جديدة لهذا الجهاز الأمني تعبّر عن روح الثورة وأهدافها، وتمتلك خطة لتطوير الجهاز تستوعب التطور التقني، حتى يقوم بدوره الوطني المطلوب"، مستبعداً فكرة حلّ الجهاز نهائياً، وإنما الاكتفاء بإعادة هيكلته من جديد.
وحول تأثير الأحداث على قوة المكون العسكري في السلطة الانتقالية، أوضح القيادي في "الحرية والتغيير" أنه "ليس ثمة جديد يمكن أن يقوّي المكون العسكري، وأنّ الأمر سيقود لضرورة الإسراع بإعادة صياغة كل مؤسسات الدولة حتى تنجلي الفترة الانتقالية بسلام".
من جهته، قال الخبير العسكري، اللواء المتقاعد، أمين مجذوب، إنّ ما حدث "له جوانب عسكرية إدارية، وأخرى نفسية"، موضحاً بالنسبة للأولى أنّ "هناك قصوراً من جانب جهاز المخابرات العامة في تنفيذ قرار المجلس العسكري بحلّ هيئة العمليات". أمّا الجانب النفسي "فيتعلق بأنّ قوة هيئة العمليات تم تعيينها على أسس أيديولوجية وسياسية، ولم يتم تسريحها بذات الكيفية، بل بطريقة اعتبرتها مهينة". ورجح مجذوب أن يكون هناك "تراخٍ متعمّد في حل الهيئة من جهات غير راغبة أصلاً في ذلك". وتوقع الخبير العسكري "تعيين إدارة جديدة لجهاز المخابرات، وتجنّب السيناريوهات الأخرى، بما في ذلك حلّ الجهاز".
أما عضو مجلس السيادة الانتقالي، محمد الفكي سليمان، فقال في حديث مع "العربي الجديد" إنّ "خيار المواجهة والحسم كان هو آخر الخيارات للقيادة السياسية والعسكرية لمواجهة ما حدث من تمرد، وذلك بعد فشل كل محاولات التفاوض مع المجموعة للوصول لحل من دون فقدان أرواح عزيزة"، موضحاً أنّ المجموعة "رفضت حتى اللحظات الأخيرة كل الحلول المطروحة، فكان الحسم".
وأضاف الفكي أنّ "محاكمات عسكرية ستتم وفقاً للقانون العسكري"، مشيراً إلى أنّ "التحقيقات التي تجرى حالياً، ستكشف إن كانت هناك أجندة سياسية وراء التمرّد ولم يكن الموضوع مجرد بحث عن تعويضات مالية".
وحول الحلول الأخرى المستقبلية، أوضح الفكي أنّ "هناك تصورات تمت دراستها قبل وقوع الأحداث، لإجراء تغييرات واسعة في قيادة كل الأجهزة الأمنية، بما في ذلك قيادة جهاز الأمن"، لافتاً إلى أنّ "وقوع الأحداث سيعجّل باتخاذ تلك القرارات". واستبعد فكرة حلّ جهاز المخابرات بالكامل، واصفاً إياه بأنه "مؤسسة كبيرة تحتاجها الدولة في الفترة المقبلة".
كذلك تتعزز المخاوف نظراً لأهمية قوش ونفوذه وجهاز المخابرات العامة في السنوات على الرغم من تقليص أدواره في مرحلة ما بعد الثورة. ولطالما كان دوره الأساس يتمثل في حماية نظام البشير، بما تضمنه ذلك من تنفيذ اعتقالات المعارضين. وفي عام 2004 تم دمج جهاز الأمن مع جهاز المخابرات ليشكّلا جهازاً واحداً باسم الأمن والمخابرات وتم تعيين الفريق صلاح قوش مديراً له، فتوسعت صلاحيات الجهاز الذي أعطي حتى صلاحيات تشكيل قوات قتالية فأسس الجهاز إدارة هيئة العمليات والتي شاركت في الحرب في عدد من الجبهات القتالية، سواء في دارفور أو جنوب كردفان أو النيل الأزرق.
وبعد نجاح الثورة طالب الثوار بحل جهاز الأمن والمخابرات باعتباره امتداداً لنظام البشير، فكان أن جاء القرار من المجلس العسكري في يونيو/ حزيران الماضي بتعديل قانون الجهاز بما يحصر مهمته في جمع وتحليل المعلومات فقط وإعادة هيكلة طبقاً لتلك المهمة، مع تغيير اسمه من جهاز الأمن والمخابرات لجهاز المخابرات. وتم حل هيئة العمليات وتخيير عناصرها المقدرة أعدادهم بأكثر من 10 آلاف عنصر ما بين الانضمام إلى الجيش السوداني أو الدعم السريع أو التقاعد الاختياري فاختارت الغالبية التقاعد، شريطة الحصول على استحقاقات مالية مجزية بعد نهاية خدمتهم، وكان ذلك مدخلاً لتمردهم أول من أمس الثلاثاء.
وعقب إعلان انتهاء التمرد، ظهرت تطمينات من مختلف الأطراف، العسكرية والمدنية، بأنّ الوضع عاد إلى طبيعته، وأنّ مسار الثورة متواصل، إلا أنّ لهذه الأحداث تداعيات على وضع السودان، وتضعه أمام تحديات كبيرة، خصوصاً أنها لا تزال في المرحلة الانتقالية نحو دولة المؤسسات والحكم المدني، ولعلّ أبرز المخاوف من أنّ تؤثّر هذه الأحداث على هذه المرحلة واستكمال مسار الثورة، في ظلّ محاولات النظام السابق التشويش على هذا المسار وعرقلته.
وبناءً على التمرّد، والذي شهدت العاصمة على إثره ما يشبه حالة طوارئ، قدّم مدير جهاز المخابرات، الفريق أول أبوبكر دمبلاب، استقالته، بحسب ما أعلن رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، في تصريحات صحافية أمس، موضحاً أنّ هذه الاستقالة قيد النظر. وأعلن البرهان عن "تشكيل لجنة تحقيق ستبحث في من قام بالتخطيط والتحريض على عملية التمرّد"، مضيفاً أنّ "هناك أطرافاً مختلفة تحاول عرقلة مسيرة الثورة في السودان، وهي تخدم الدولة العميقة".
ولفت البرهان إلى أنّ "القوة التي قامت بمحاولة التمرد، كان لديها عدد كبير من الأسلحة، بينها مضادات طائرات"، مضيفاً: "قواتنا تعاملت بشكل ملائم مع تحرك المتمردين ومقاومتهم كانت محدودة".
وكان البرهان قد تعهد في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الحكومة عبد الله حمدوك، صباح أمس الأربعاء، بمنع حدوث انقلاب في السودان، مؤكداً أن "كل مباني المخابرات باتت تحت سيطرة الجيش". وأكد البرهان أنّ "القوات المسلحة لن تسمح بأي انقلاب على الشرعية الثورية".
بدوره، قال حمدوك إنّ "ما حدث هو فتنة قصد منها قطع الطريق على تطور هذا الشعب والانتقال إلى بناء ديمقراطية راسخة". وأشاد حمدوك بدور "القوات المسلحة والدعم السريع لجهودها في إجهاض الفتنة"، التي شهدها السودان الثلاثاء، مؤكداً أنّ "القوات النظامية ستظلّ متماسكة بكل مكوناتها صفاً واحداً لحماية الفترة الانتقالية إلى أن تبلغ مبتغاها".
من جهته، وصف رئيس الأركان السوداني، الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين، ما حدث من هيئة العمليات بجهاز المخابرات العامة، بـ"التمرد العسكري". وأشار في تصريحات صحافية له أمس إلى قرار باقتحام المقرات بأقل قدر من القوة وبشكل متزامن، مضيفاً: "تم تنفيذ الخطة واستلمت القوات المسلحة وقوات الدعم السريع جميع المواقع". وكشف عن مقتل اثنين من القوات النظامية وجرح 4 آخرين، من بينهم ضابطان، في عملية الاقتحام. لكن برز صمت عن تحديد حجم الخسائر وسط أفراد هيئة العمليات، وهو أمر يتوقع البعض أن يكون كبيراً نسبة لحجم الأسلحة التي استخدمت في فضّ التمرد.
ولم يسلم المدنيون كذلك من آثار هذا التمرّد الأمني، إذ أعلنت لجنة أطباء السودان المركزية (غير حكومية)، أمس، عن مصرع ثلاثة أفراد من أسرة واحدة بمنطقة سوبا جنوب شرقي الخرطوم؛ جرّاء سقوط قذيفة على منزلهم. وسبق أن أعلنت اللجنة الثلاثاء عن إصابة شاب (15 عاماً) بعيار ناري خلال أحداث التمرد في الخرطوم.
وكانت محاولات التوصل إلى حلّ سلمي قد فشلت في الساعات الأولى من الحدث، بعد تدخل كبار ضباط المخابرات المتقاعدين. وربما فضلت السلطات الحكومية خيار الحسم العسكري أكثر من غيره، كونه يعطي صورة مختلفة عن تلك التي رسمت عنها في الفترات السابقة، بالتهاون في شؤون أمنية مهمة، ولإيصال رسالة بعدم التهاون مع الانفلاتات الأمنية التي تحدث أثناء الفترة الانتقالية. كذلك حرصت على أن تكون العملية مشتركة بين الجيش وقوات الدعم السريع وبعض وحدات الشرطة، حتى تعطي انطباعاً عن وحدة القوات النظامية وعملها كمنظومة واحدة.
سياسياً، يبدو أنّ المكونين العسكري والمدني في الحكومة عمدا إلى استثمار الحدث لتأكيد الشراكة بينهما لإكمال مهام الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير في إبريل/ نيسان الماضي. وما يدلل على ذلك هو وجود رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، وقيادات تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير"، في غرفة العمليات بمقر القيادة العامة للجيش، جنباً إلى جنب مع البرهان، في أثناء إدارته العمليات.
لكن البعض تخوّف من أن تكون تلك الرسالة التي أرادت الأطراف إرسالها محاولة لتسويق المكون العسكري وسط الثوار، الذين لديهم تحفظات كبيرة عليه، ويتحفظون على دوره منذ فضّ اعتصام محيط القيادة العامة للجيش السوداني في يونيو/حزيران الماضي، والذي راح ضحيته أكثر من 100 من المعتصمين، بالتالي تعاملوا مع الرسالة بحذر شديد.
كما أنّ نائب رئيس مجلس السيادة، قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، حاول هو الآخر، عبر مؤتمر صحافي، تسويق نفسه كحامٍ للثورة، وقدم إشارات على أن جهاز المخابرات الذي تمردت هيئة عملياته الثلاثاء هو الجهاز ذاته الذي قد يكون تورط في أحداث القتل في أثناء فضّ الاعتصام.
لكن الذي كان لافتاً أكثر في حديث دقلو للمرة الأولى هو تصعيد المواجهة مع النظام السابق الذي ينشط هذه الأيام في تسيير مواكب ضد الحكومة الحالية، والتصويب على قوش الذي يوجد في مصر. ويبدو أن حالة التقارب التي كانت قائمة بين دقلو وأركان نظام البشير الذي كان واحداً منهم في طريقها إلى التلاشي، وربما تصل إلى حدّ المواجهة، سواء بزيادة عدد المعتقلين من رموز النظام السابق أو منع التظاهرات الجديدة التي أعلن عنها في كل من ولاية غرب كردفان والعاصمة الخرطوم في يومي 18 و26 من الشهر الحالي. ويسعى دقلو من خلال تلك المواجهة إلى إعادة الودّ المفقود بينه وبين الثوار منذ حادثة فض اعتصام القيادة العامة.
على صعيد الأحزاب السياسية الشريكة في "تحالف الحرية والتغيير"، أصدر "حزب البعث السوداني" بياناً دان فيه الأحداث "غير المسؤولة"، وأكد أنّ "الثورة ماضية إلى تحقيق أهدافها، على الرغم من تعدد المهددات، بما فيها محاولات قوى الردة التي تهدف إلى عرقلة المسيرة". واتهم الحزب المؤسسات الأمنية بـ"التراخي مع جهاز المخابرات، ما أدى إلى ارتكاب أخطاء إدارية جسيمة، جعلت من موضوع المستحقات المالية ذريعة لإشهار السلاح، فضلاً عن ترك السلاح في يد قوات تمّ تسريحها وهي بصدد استلام مستحقاتها".
ورفض الحزب القبول بفرضية أنّ هذه القوات تمردت بسبب المستحقات المالية، خصوصاً أنّ جهات عليا أعلنت أنها سبق أن حذرت مدير جهاز المخابرات مما يدور في أروقة هذه القوات، واتهمته بالتقصير في معالجة الوضع. وطالب الحزب بإنفاذ ما قررته الوثيقة الدستورية بتبعية جهاز المخابرات، وتمكين رئيس الوزراء من الإشراف عليه وهيكلته، وتكليفه بالمهام المنصوص عليها في الوثيقة.
وتعليقاً على هذه التطورات، رأى المحلل السياسي، عبد الماجد عبد الحميد، أنّ ما حصل "يعدّ دليلاً واضحاً على الارتباك في المؤسسة الأمنية الحالية، كما أنه يبين عدم اهتمامها بما يجري أو سيحدث، حتى ولو كان ذلك عصياناً عسكرياً".
وأضاف عبد الحميد، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "أجهزة الرصد سواء في الاستخبارات العسكرية، أو في جهاز المخابرات، لم تهتم في الأيام الماضية بما يدور في هيئة العمليات، نسبة لشعور أفرادها بالتهميش، مقابل اهتمام آخر تجده استخبارات قوات الدعم السريع". وأشار إلى أنّ "لا مبالاة تلك الأجهزة تمثّل مؤشراً أمنياً خطيراً يفاقمه تعالي الأصوات بحلّ جهاز الأمن الحالي، وإنشاء آخر بديل". ورجّح حدوث ذلك في الفترة المقبلة "لا سيما مع اهتزاز صورة الأمن الحالي، وتعرضه لإهانات بالغة، خصوصاً من المكون العسكري وتحديداً حميدتي".
وتوقّع عبد الحميد "تكرار ما حدث أخيراً في مؤسسات أخرى". كذلك أكد أنه حسب معلوماته "هناك حملة اعتقالات واسعة في صفوف ضباط المخابرات، ربما تحدث ردة في الاحتجاج". وأشار إلى أنّ "البلاد موعودة بقبضة حديدية بواسطة قوات الدعم السريع على حساب الشقّ المدني في الحكومة".
غير أنّ القيادي في قوى "الحرية والتغيير"، كمال بولاد، أوضح في حديث لـ"العربي الجديد" أنّ ما حدث "يعكس طبيعة التشوهات التي حدثت في المؤسسات كافة، في ظلّ النظام السابق، وعلى رأسها مؤسسة الأمن والاستخبارات، التي هي في كل العالم تختصّ بجمع المعلومات وحماية الأوطان من الاختراقات الاستخباراتية الأجنبية، لكن في سبيل استمراره في السلطة، حوّل النظام السابق تلك المؤسسات لمليشيات وجيوش بإمرة حزب استخدمتها لحمايته، ما أدى إلى تضخمها وبروز التشوهات الكبيرة في المنظومة الأمنية".
وأضاف بولاد أنّ "قوى الثورة انتبهت لذلك، وعالجته في الوثيقة الدستورية بصورة تعيد جهاز الأمن لطبيعته الاستخباراتية الوطنية"، مشيراً إلى أنّ "ذيول النظام السابق حالت دون اكتمال الإصلاح، إذ حدث تلكؤ كبير". وشدد بولاد على "أهمية تعيين إدارة جديدة لهذا الجهاز الأمني تعبّر عن روح الثورة وأهدافها، وتمتلك خطة لتطوير الجهاز تستوعب التطور التقني، حتى يقوم بدوره الوطني المطلوب"، مستبعداً فكرة حلّ الجهاز نهائياً، وإنما الاكتفاء بإعادة هيكلته من جديد.
وحول تأثير الأحداث على قوة المكون العسكري في السلطة الانتقالية، أوضح القيادي في "الحرية والتغيير" أنه "ليس ثمة جديد يمكن أن يقوّي المكون العسكري، وأنّ الأمر سيقود لضرورة الإسراع بإعادة صياغة كل مؤسسات الدولة حتى تنجلي الفترة الانتقالية بسلام".
من جهته، قال الخبير العسكري، اللواء المتقاعد، أمين مجذوب، إنّ ما حدث "له جوانب عسكرية إدارية، وأخرى نفسية"، موضحاً بالنسبة للأولى أنّ "هناك قصوراً من جانب جهاز المخابرات العامة في تنفيذ قرار المجلس العسكري بحلّ هيئة العمليات". أمّا الجانب النفسي "فيتعلق بأنّ قوة هيئة العمليات تم تعيينها على أسس أيديولوجية وسياسية، ولم يتم تسريحها بذات الكيفية، بل بطريقة اعتبرتها مهينة". ورجح مجذوب أن يكون هناك "تراخٍ متعمّد في حل الهيئة من جهات غير راغبة أصلاً في ذلك". وتوقع الخبير العسكري "تعيين إدارة جديدة لجهاز المخابرات، وتجنّب السيناريوهات الأخرى، بما في ذلك حلّ الجهاز".
أما عضو مجلس السيادة الانتقالي، محمد الفكي سليمان، فقال في حديث مع "العربي الجديد" إنّ "خيار المواجهة والحسم كان هو آخر الخيارات للقيادة السياسية والعسكرية لمواجهة ما حدث من تمرد، وذلك بعد فشل كل محاولات التفاوض مع المجموعة للوصول لحل من دون فقدان أرواح عزيزة"، موضحاً أنّ المجموعة "رفضت حتى اللحظات الأخيرة كل الحلول المطروحة، فكان الحسم".
وأضاف الفكي أنّ "محاكمات عسكرية ستتم وفقاً للقانون العسكري"، مشيراً إلى أنّ "التحقيقات التي تجرى حالياً، ستكشف إن كانت هناك أجندة سياسية وراء التمرّد ولم يكن الموضوع مجرد بحث عن تعويضات مالية".
وحول الحلول الأخرى المستقبلية، أوضح الفكي أنّ "هناك تصورات تمت دراستها قبل وقوع الأحداث، لإجراء تغييرات واسعة في قيادة كل الأجهزة الأمنية، بما في ذلك قيادة جهاز الأمن"، لافتاً إلى أنّ "وقوع الأحداث سيعجّل باتخاذ تلك القرارات". واستبعد فكرة حلّ جهاز المخابرات بالكامل، واصفاً إياه بأنه "مؤسسة كبيرة تحتاجها الدولة في الفترة المقبلة".