تأخذ معالم السياسة الخارجية السعودية بالتشكّل على وقع التطورات الإقليمية، وبغرض مواجهة النكبات التي تعاني منها المنطقة. وتمكن قراءة ما يحدث في أروقة السياسة السعودية، من خلال تتبع مبادرات المملكة في المنطقة خلال العام 2015، وبعد تولي الملك سلمان بن عبد العزيز سدّة الحكم، خصوصاً في ظل غياب أي منظرين ظاهرين للسياسة السعودية الخارجية، على عكس ما يحدث في دول أخرى.
اقرأ أيضاً: الصراع بين الرياض وطهران: عربي ـ إيراني لا طائفي
أولى ملامح السياسة الخارجية السعودية، أنّها باتت أقل تعويلاً على الولايات المتحدة الأميركية، إن كان في حفظ أمن المنطقة، أو في تحقيق مصالحها على المدى البعيد. ظهر هذا التباعد بصورة واضحة، بعد تغيب الملك سلمان عن اجتماع كامب ديفيد في مايو/أيار 2015، والذي أوضح فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما ملامح سياسته للقادة الخليجيين، ونصحهم بالتركيز على شؤونهم الداخلية. ما عدّه مراقبون على نطاق واسع، خطاباً استفزازياً، يتجاهل مخاوف الخليجيين من التدخلات الإيرانية في المنطقة.
يتجلّى عدم تعويل الرياض على واشنطن، من خلال ثلاث نقاط رئيسية، الأولى: استقبال الرياض الحذر للاتفاق النووي مع إيران، باعتباره اتفاقاً أراده الأميركيون بأي ثمن، مقابل تشكيك الرياض بأن يكون للاتفاق أثر على أعمال طهران العدوانية في المنطقة. بل على العكس، تعتقد الرياض أن رفع العقوبات عن إيران بدون تسوية سياسية تحدّ من تدخلاتها في الشؤون العربية، قد يؤدي إلى تدخل إيراني أكثر، من خلال زيادة قدراتها على تجنيد ودعم ميلشياتها في العراق وسورية ولبنان.
النقطة الثانية، تتعلق بالتدخل السعودي المباشر في اليمن، من خلال بناء التحالف العربي. الولايات المتحدة لم ترفض هذا التدخل، بحسب مراقبين، لكنها لم تؤيده أو تقف معه بالشكل المتوقع من حليف.
النقطة الثالثة التي تدل على تباين المواقف بين الرياض وواشنطن، ترتبط بتمسك الأولى بمواقفها من الثورة السورية، وإصرارها على رحيل رأس النظام، بشار الأسد، وفق تسوية تبعد دمشق عن طهران. هذا الإصرار لم يكن خطابياً، بل ترجمته الرياض على شكل دعم سياسي للمعارضة السورية، حتى أصبحت تتحدث من الرياض بعد اجتماعات تشكيل هيئة المفاوضات العليا، واستمرار الدعم العسكري للمعارضة المسلحة، مما يعني أن الرياض لن تقبل حلاً أميركياً يحارب تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، دون رحيل الأسد. وعوضاً عن أن تمضي الرياض مع الإرادة الأميركية التي ترفع شعار "الإرهاب أولاً" اختارات التلويح بورقة "الأسد أولاً".
ثاني ملامح تغير السياسة الخارجية السعودية، يتجلى في إعادة الرياض الاعتبار لمحيطها الخليجي والعربي لدعم سياساتها. ويظهر هذا بشكل واضح من خلال محاولة عزل إيران إقليمياً، عبر بناء توافق خليجي وعربي ضد إيران، إثر قطع الرياض لعلاقتها الدبلوماسية مع طهران، بعد الاعتداءات على المقرّات الدبلوماسية السعودية. وإن كان هذا العزل الإقليمي جاء متأخراً، ولم يعد ورقة رابحة في مواجهة إيران، بعد رفع العقوبات الدولية، وانفتاح إيران على الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا، ولكن تبقى خطوة إيجابية، وإن تقلصت آثارها.
ردّ الرياض الاعتبار إلى المحيط الإقليمي، لم يكن محصوراً في المحيط العربي، بل شمل تركيا، والتي تعد ورقة رابحة للرياض، في مواجهة الهيمنة الإيرانية على العراق وسورية. فلعب التوافق السعودي – التركي – القطري، دوراً مهماً على الساحة السورية. كما تحاول الرياض أن تستميل أنقرة في صفها، في المواجهة الإقليمية ضد طهران.
أنقرة، التي لا تفضل أن تنحاز في صراع يمكن قراءته طائفياً، أو الدخول في تحالف "سني" ضد محور "شيعي"، لن تتسامح أيضاً مع الفوضى التي خلقتها طهران على حدودها مع العراق وسورية؛ فالمليشيات الطائفية المدعومة إيرانياً، قد تستخدم كورقة ضغط على تركيا، ما لم تقم بخطوات استباقية، لإعادة تشكيل تحالفاتها في المنطقة.
وتحاول السعودية اليوم المضي خطوة إضافية في سبيل التحالف مع تركيا، من خلال الضغط من أجل مصالحة تركية – مصرية، تراها السعودية ضرورية لتنسيق جهود دول المنطقة ضدّ إيران. ورغم أن كل التسريبات حتى اللحظة تدل على أن مصالحة من هذا النوع ليست منتظرة في القريب العاجل، إلا أن مجرد السعي لتطبيع العلاقات التركية المصرية، يعني أن هناك إمكانية، لتخفيف حدة الخلاف.
ثالت ملامح السياسة الخارجية السعودية، تمكن قراءته من خلال استخدام المملكة للقوة العسكرية المباشرة وغير المباشرة للتأثير في الأوضاع الإقليمية، وهو ما لم تفعله الرياض لعقود. إذ إن تدخل الرياض المباشر في اليمن من خلال التحالف العربي، وغير المباشر في سورية من خلال دعم المعارضة عسكرياً وسياسياً، تدلّ على سياسة خارجية سعودية أقل تحفظاً، وأكثر ديناميكية. لسنوات طوال، تم انتقاد الرياض، بسبب تركيزها على بناء قوة عسكرية كبيرة، دون أن تستخدمها في سياستها الخارجية، أو تلوح باستخدامها على الأقل، اليوم يبدو أن هذا شيء من الماضي.
اقرأ أيضاً: داود أوغلو يصل السعودية ويحث المعارضة على الذهاب لجنيف
تبدو أجندة الرياض السياسية اليوم في المنطقة أكثر وضوحاً من أي وقت مضى؛ فهي لا تطلب إقصاء الحوثيين من المشهد السياسي في اليمن، غير أنّها ترفض تكرار تجربة حزب الله اللبناني، باعتباره فصيلاً مسلحاً مؤثراً في الساحة السياسية، لذا ترغب بأن يكون الحوثي طرفاً سياسياً، غير مسلّح، كأي حزب سياسي.
في سورية، لا تريد الرياض تكرار خطأ الولايات المتحدة في العراق، من خلال حل مؤسسات الدولة السورية، المدنية والعسكرية، لذا تحرص على مقررات جنيف 1، والتي تدعم رحيل الأسد وكبار معاونيه، مقابل بقاء مؤسسات الدولة، وإعادة بناء النظام السياسي في سورية من خلال مرحلة انتقالية، لا تقصي أحداً من المشهد السياسي.
وتدعم الرياض كذلك نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، والذي تعتقد الرياض بأن وجوده ضمانة لمنع انهيار الدولة المصرية. الأمر الذي لا تحتمله السعودية، على الرغم من أن مصر لم تلعب دوراً فاعلاً في الملفات الإقليمية التي تشتبك معها الرياض، خصوصاً مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. فمصر، والتي تعد جزءاً من التحالف العربي في اليمن، احتفظت بموقف غامض من نظام بشار الأسد، إذ إنها لم تقف ضده بشكل واضح. بل على العكس، تمكن قراءة السياسة المصرية كمتعاطفة مع نظام دمشق.
في إطار كل ما يحدث من متغيرات، تمكن قراءة التقارب السعودي – التركي كأهم رافعة لسياسات الرياض في المنطقة، فتركيا تدعم سياسات السعودية في سورية واليمن، الملفات الأكثر سخونة التي تحاول الرياض إنهاءها لصالحها، على أن تكون سورية، نقطة انطلاق لمواجهة أكبر مع إيران في المستقبل، خصوصاً في العراق. وتحاول الرياض أن تستعيد دورها في بلاد الرافدين، بعد تجاهله لسنوات، من خلال إعادة فتح سفارتها في بغداد، وتسمية سفير، هو ثامر السبهان، يبدو أنه يتبنى سياسات راديكالية، إذ بدأ مشواره الدبلوماسي في العراق، من خلال انتقاده الحاد لمليشيات "الحشد الشعبي"، متهماً إياها بارتكاب جرائم طائفية.