21 أكتوبر 2024
ما بعد انتهاء تمثيل المعارضة الثورة السورية
أخذ السوريون، مع بداية الثورة عام 2011، فترة قبل أن يمارسوا عمليات فرز واصطفاف وتخندق، جرت وفق معطياتٍ عديدةٍ، لا يمكن اختصارها كلها بعبارة مع "الاحتجاج أو ضده"، ولاحقاً بين "مع الثورة أو مع النظام"، لأن الحدث الذي سبق اشتعال الاحتجاجات في كل المدن السورية انطلاقاً من درعا، وتحول إلى ثورةٍ ويمكن القياس عليه، كان مظاهرة الحريقة في 17 فبراير/ شباط 2011، والتي أطلقت عبارتين، يمكن من خلالهما فهم حجم حالة الاحتقان الكبير التي تعتمر نفوس السوريين "حرامية حرامية"، في إشارة إلى الأجهزة الأمنية، وتحديداً الشرطية التي أهانت أحد شباب دمشق، وهتاف "الشعب السوري ما بينذل".
ولاحقاً بعد قرابة الشهر، كانت هتافات الناشطين، يوم 15 مارس/ آذار، في أحد التفرعات الجانبية لسوق الحميدية "حرية حرية"، في حين كان هدف اعتصام بعض عائلات المعارضين أمام وزارة الداخلية، في اليوم التالي، تقديم عريضةٍ تتضمن شكوى الأهالي ومعاناتهم، مؤكدين أن أقاربهم من المعتقلين "أحبوا سورية وطالبوا بها وطناً للجميع، وتحت سقف القانون"، ما يعني أن التأسيس الحقيقي للمجاهرة بالحقوق جاء بإرادةٍ عفويةٍ من عامة الشعب وعوامه، وليس من الفئة النخبوية منه، كالمعارضين التقليديين، ومجموعات المثقفين، سواء في داخل سورية أو خارجها.
ومن هنا، لا يمكن أن نعتبر أن من ساند الاحتجاجات ضد قمع الأجهزة الأمنية في درعا (18 مارس/ آذار 2011) من مختلف شرائح السوريين، في مختلف المحافظات، كان يعبر عن حالةٍ لحظيةٍ راهنة، بل هي حالةٌ منظمةٌ داخله كفردٍ يعي حجم مشكلة الاستبداد الممارس عليه من النظام وأجهزته القمعية، ووسائل مجابهتها، وحجم التضحيات المرافقة لها، وكان لمشاهد الربيع العربي أن انتزعت مخاوفه منها، على الرغم من أن درجة قياس العنف التي استخدمها النظام مع محافظة درعا أخلّت بموازين حسابات الذين عايروا ما سيحدث في سورية مع ما حدث في بلادٍ أزهر فيها الربيع العربي، وأنتج ثماراً معظمها غير صالح للاستهلاك الحديث في مفهوم الدول الديمقراطية التي تتشكل أنظمتها بعد ثوراتٍ شعبيةٍ ضد أنظمة شمولية. وعلى الرغم من ذلك، استمر الحراك، وتوسعت دائرته، ليتحول خلال أسابيع إلى ثورةٍ عمت أرجاء البلاد، وقلبت مفاهيم الأولويات لدى السوريين من مطالباتٍ معيشيةٍ وتحت سلطوية إلى مطالباتٍ حقوقية سياسية عامة.
الاصطفافات الشعبية السورية منذ بدء حراكات الربيع العربي في ديسمبر/ كانون الأول 2010، وما ساد من تفاعلٍ شعبيٍّ لمساندة حركات التحرّر في تونس وليبيا ومصر واليمن من أنظمتها الاستبدادية، واجهه النظام بموقف رسمي متضامن ظاهرياً، ورافض ضمنياً، عبرت عنه وسائل الاعلام، (وكنت آنذاك في مقدمة واحدةٍ منها) "بحذر" شديد، وتجاهل مجريات الوقائع على الأرض، تخوفاً من انتقال عدوى الثورات التي لم تمهله طويلا، واجتاحت سورية من جنوبها حتى أقصى حدودها الشمالية، إلا أن تمييز الاصطفافات الشعبية خلف احتجاجات درعا لم يظهر بشكله الواضح، إلا بعد أيام من تلقي النظام صفعة انطلقت من أكثر المدن قرباً إلى دمشق العاصمة والنظام الحاكم.
في ذلك الوقت (أي منذ احتجاجات الحريقة) تلقف النظام جرس الإنذار الأول الذي بدأ من
خلاله بتحرّي سبل المواجهة المقبلة، ووسائل التصدّي لها وفق سيناريوهاتٍ عديدةٍ عملت عليها خلايا أزماتٍ في مجالات متنوعة، عسكرية وأمنية وإعلامية واقتصادية، إضافة إلى بيوت الاستشارة الدولية التي كانت تستخدم لتجميل صورة العائلة الشابة الحاكمة في المجتمعات الغربية، بينما التزمت في هذا الوقت المعارضة التقليدية بتسوير نفسها داخل عوالمها، داخلياً وخارجياً، وبعيدا عن أي تنسيقٍ لأي حراكٍ شعبي محتمل، ما يؤكد خلو ساحة حركة احتجاجات درعا من أي شبهة أجنداتٍ خارجيةٍ، سبقت صيحات الاحتجاج، والمطالبات بمحاسبة الفاسدين في أعلى سلطةٍ لبلد استبدادي، تحكمه أجهزته الأمنية.
وهنا، يمكن ملاحظة أن انقسام السوريين، بين معارض للثورة أو مؤيد لها، كان بداية نتيجة اصطفاف طوعي مصلحي على جانبي الصراع السلمي، المتمثل بالتظاهر، احتجاجاً على أداء الأجهزة الأمنية الفاسدة، وأدوات الحكومة التنفيذية، أي كان يعبّر عن كامل إرادة الفرد الراغب بالوقوف إلى أيٍّ من الطرفين، نظاماً ومعارضة، إلا أننا يجب أن نتحدّث عن اصطفافاتٍ كانت تحت الضغط السلطوي (مؤيد إجباري) أو المعارض له (ثائر إجباري)، ولعل هذا ما أنتج حالة الرمادية بين هؤلاء والتي تحدث عنها رأس النظام، واعتبر أن الخيار إما معي أو ضدي، وحالة (الضفدعة) التي تعبر عن خونةٍ أو عملاء داخل كيانات المعارضة وفصائلها التي انكشفت خلال عمليات استسلام المدن، وعقد اتفاقات مناطق خفض التصعيد وترويجها، حيث مارس كل طرفٍ منهما عمليات الترغيب والترهيب، والتأثير المباشر، وهو ما أنتج آلاف المعتقلين لدى النظام الذين رفضوا الخضوع لإرادته في عداء الثورة، وأنتج حالة الهجرة من مناطق المعارضة إلى مناطق النظام.
وخلاصة القول إن هذه الثورة أطلقها سوريون من عامة الشعب، بينما استلمت شخصيات وكيانات دخيلة ومدخلة عليها زمام الأمور في عملياتٍ ترمي إلى هدمها، وحرفها، وتحويلها حتى حدود الهزيمة، وأخذ الثورة إلى مراحل فوق قدراتها البشرية والمادية، وصولاً إلى ما تسمى مفاوضاتٍ وتسوياتٍ تقوم بها هذه الكيانات التي تم إنشاؤها من خارج بنية الثورة وإرادتها، وإعطاؤها أدواراً وظيفية، للسير بالثورة في طرق العسكرة المرتهنة، خلافاً لما أرادته نخبها الثورية.
لذا، في ثورةٍ لا تقبل ذل الشعب السوري (الشعب السوري ما بينذل)، وتنادي بمحاسبة "الحرامية"، وشعارها "حرية، حرية"، فهذا المآل لا يمكن أن يكون لثورة الكرامة نفسها، وبممثلين عنها الذين يفاوضون اليوم على تقاسم سورية، والقبول باحتلالها من قوى روسية وإيرانية وتركية، حيث من ينتفض ضد استهانة حقوقه لا يمكنه أن يقبل بامتهان حدوده واحتلالها، ما يعني أن تفويض هذه الكيانات لتمثيل الثورة انتهى، وصار تمثيلا للدول التي عينتهم، وليس للثورة التي أفرزت بعضهم.
ولاحقاً بعد قرابة الشهر، كانت هتافات الناشطين، يوم 15 مارس/ آذار، في أحد التفرعات الجانبية لسوق الحميدية "حرية حرية"، في حين كان هدف اعتصام بعض عائلات المعارضين أمام وزارة الداخلية، في اليوم التالي، تقديم عريضةٍ تتضمن شكوى الأهالي ومعاناتهم، مؤكدين أن أقاربهم من المعتقلين "أحبوا سورية وطالبوا بها وطناً للجميع، وتحت سقف القانون"، ما يعني أن التأسيس الحقيقي للمجاهرة بالحقوق جاء بإرادةٍ عفويةٍ من عامة الشعب وعوامه، وليس من الفئة النخبوية منه، كالمعارضين التقليديين، ومجموعات المثقفين، سواء في داخل سورية أو خارجها.
ومن هنا، لا يمكن أن نعتبر أن من ساند الاحتجاجات ضد قمع الأجهزة الأمنية في درعا (18 مارس/ آذار 2011) من مختلف شرائح السوريين، في مختلف المحافظات، كان يعبر عن حالةٍ لحظيةٍ راهنة، بل هي حالةٌ منظمةٌ داخله كفردٍ يعي حجم مشكلة الاستبداد الممارس عليه من النظام وأجهزته القمعية، ووسائل مجابهتها، وحجم التضحيات المرافقة لها، وكان لمشاهد الربيع العربي أن انتزعت مخاوفه منها، على الرغم من أن درجة قياس العنف التي استخدمها النظام مع محافظة درعا أخلّت بموازين حسابات الذين عايروا ما سيحدث في سورية مع ما حدث في بلادٍ أزهر فيها الربيع العربي، وأنتج ثماراً معظمها غير صالح للاستهلاك الحديث في مفهوم الدول الديمقراطية التي تتشكل أنظمتها بعد ثوراتٍ شعبيةٍ ضد أنظمة شمولية. وعلى الرغم من ذلك، استمر الحراك، وتوسعت دائرته، ليتحول خلال أسابيع إلى ثورةٍ عمت أرجاء البلاد، وقلبت مفاهيم الأولويات لدى السوريين من مطالباتٍ معيشيةٍ وتحت سلطوية إلى مطالباتٍ حقوقية سياسية عامة.
الاصطفافات الشعبية السورية منذ بدء حراكات الربيع العربي في ديسمبر/ كانون الأول 2010، وما ساد من تفاعلٍ شعبيٍّ لمساندة حركات التحرّر في تونس وليبيا ومصر واليمن من أنظمتها الاستبدادية، واجهه النظام بموقف رسمي متضامن ظاهرياً، ورافض ضمنياً، عبرت عنه وسائل الاعلام، (وكنت آنذاك في مقدمة واحدةٍ منها) "بحذر" شديد، وتجاهل مجريات الوقائع على الأرض، تخوفاً من انتقال عدوى الثورات التي لم تمهله طويلا، واجتاحت سورية من جنوبها حتى أقصى حدودها الشمالية، إلا أن تمييز الاصطفافات الشعبية خلف احتجاجات درعا لم يظهر بشكله الواضح، إلا بعد أيام من تلقي النظام صفعة انطلقت من أكثر المدن قرباً إلى دمشق العاصمة والنظام الحاكم.
في ذلك الوقت (أي منذ احتجاجات الحريقة) تلقف النظام جرس الإنذار الأول الذي بدأ من
وهنا، يمكن ملاحظة أن انقسام السوريين، بين معارض للثورة أو مؤيد لها، كان بداية نتيجة اصطفاف طوعي مصلحي على جانبي الصراع السلمي، المتمثل بالتظاهر، احتجاجاً على أداء الأجهزة الأمنية الفاسدة، وأدوات الحكومة التنفيذية، أي كان يعبّر عن كامل إرادة الفرد الراغب بالوقوف إلى أيٍّ من الطرفين، نظاماً ومعارضة، إلا أننا يجب أن نتحدّث عن اصطفافاتٍ كانت تحت الضغط السلطوي (مؤيد إجباري) أو المعارض له (ثائر إجباري)، ولعل هذا ما أنتج حالة الرمادية بين هؤلاء والتي تحدث عنها رأس النظام، واعتبر أن الخيار إما معي أو ضدي، وحالة (الضفدعة) التي تعبر عن خونةٍ أو عملاء داخل كيانات المعارضة وفصائلها التي انكشفت خلال عمليات استسلام المدن، وعقد اتفاقات مناطق خفض التصعيد وترويجها، حيث مارس كل طرفٍ منهما عمليات الترغيب والترهيب، والتأثير المباشر، وهو ما أنتج آلاف المعتقلين لدى النظام الذين رفضوا الخضوع لإرادته في عداء الثورة، وأنتج حالة الهجرة من مناطق المعارضة إلى مناطق النظام.
وخلاصة القول إن هذه الثورة أطلقها سوريون من عامة الشعب، بينما استلمت شخصيات وكيانات دخيلة ومدخلة عليها زمام الأمور في عملياتٍ ترمي إلى هدمها، وحرفها، وتحويلها حتى حدود الهزيمة، وأخذ الثورة إلى مراحل فوق قدراتها البشرية والمادية، وصولاً إلى ما تسمى مفاوضاتٍ وتسوياتٍ تقوم بها هذه الكيانات التي تم إنشاؤها من خارج بنية الثورة وإرادتها، وإعطاؤها أدواراً وظيفية، للسير بالثورة في طرق العسكرة المرتهنة، خلافاً لما أرادته نخبها الثورية.
لذا، في ثورةٍ لا تقبل ذل الشعب السوري (الشعب السوري ما بينذل)، وتنادي بمحاسبة "الحرامية"، وشعارها "حرية، حرية"، فهذا المآل لا يمكن أن يكون لثورة الكرامة نفسها، وبممثلين عنها الذين يفاوضون اليوم على تقاسم سورية، والقبول باحتلالها من قوى روسية وإيرانية وتركية، حيث من ينتفض ضد استهانة حقوقه لا يمكنه أن يقبل بامتهان حدوده واحتلالها، ما يعني أن تفويض هذه الكيانات لتمثيل الثورة انتهى، وصار تمثيلا للدول التي عينتهم، وليس للثورة التي أفرزت بعضهم.