وجه آخر للسياسة عند أرسطو
لم تقتصر انتفاضات "الربيع العربي" على إحداث خلخلة في المجتمعات العربية وحسب، بل، أيضاً، في الموروث الثقافي السياسي التقليدي. وقد أدى ذلك إلى إطلاق نقاش واسع حول مستقبل أنظمة الحكم في العالم العربي، وما يتصل بها من قضايا، كالديمقراطية وتداول السلطة. لكن ذلك النقاش لا يزال في إطار الجهود الفردية، أكثر من تحوله بحثاً مؤسساتياً متخصصاً وأكاديمياً.
ويفضل كتّاب عديدون العودة إلى النظرية السياسية عند أرسطو، فيتفق الكاتبان، حكيم عنكر وأحمد فرحات، في مقاليهما في "العربي الجديد"، بتاريخ 5 و27 يناير/ كانون الثاني 2015، على شمولية أرسطو التي تمتد حتى المستقبل. فيرى عنكر أن كتاب الفيلسوف اليوناني "السياسة" أحد تلك الكتب التي تمتلك قدرة مدهشة على العيش في المستقبل، بل يصفه بـ"الجامع المانع"، أما أحمد فرحات فيتقدم خطوة أخرى إلى الأمام، ليعلن أن أرسطو "فيلسوف للغد وبعد الغد وما بعد.. بعد الغد"، وأنه، أيضاً، "مفكر ما فوق معاصر، ما فوق حداثي، ما فوق رؤيوي مستقبلي"، ويشترك كلاهما في عدّ أرسطو مؤسساً لعلم السياسة.
السياسة عند أرسطو هي أحد العلوم العملية، وبالتالي تستند إلى وقائع وشواهد مشخصة تنتمي، زمانياً ومكانياً، إلى روح العصر اليوناني. صحيح أن أرسطو درس (كما ينقل حكيم عنكر)، ما يزيد عن مئة دستور، إلا أن هذه الدساتير كانت إغريقية، ولم تشمل دساتير عرفتها حضارات أخرى. ناهيك عن أن نموذج الدولة المثلى عند أرسطو هو "المدينة" ذات المساحة والتعداد السكاني المحدودين، على غرار ما عرفته، في حينه، بلاد الإغريق، وهو ما لا يصلح نموذجاً للدولة المعاصرة. الأمر الذي يجعلنا نتحفظ على ذاك التعميم وتلك الأحكام المطلقة، حول صلاحية أرسطو لكل زمان ومكان، كما نجدهما عند عنكر وفرحات.
ولا يمكن استنتاج نظرية في السياسة عند أرسطو، في كتابه "السياسات"، مجتزأة من فلسفته بمجموعها، بل إن قراءة السياسة عند أرسطو، من خلال مذهبه الفلسفي العام، تتيح لنا أن نحدد بدقة دلالات مفاهيم، كالعدالة والمساواة وفصل السلطات وسيادة القانون والثورة وغيرها، ومدى قربها أو ابتعادها عن دلالاتها المعاصرة. فلا يمكن، مثلاً، غض النظر عن كتابه "الأخلاق النيقوماخية"، أو "علم الأخلاق إلى نيقوماخوس"، الذي أكد فيه أن السياسة الحقّة هي المبنية على الأخلاق وإرادة الخير، وإنه على السياسة والأخلاق أن تتخذ من اللذات والآلام موضوعاً لها. ونتيجة لهذا التلازم الوثيق بين الأخلاقي والسياسي، وانطلاقاً من أن الفضيلة هي وسط بين طرفين، كلاهما رذيلة، يرى أرسطو أن الدولة الفاضلة هي التي تشكل وسطاً بين ارستقراطية المال وديمقراطية الشعب، ففضّل حكم الطبقة الوسطى، "التيموقراطية"، ولم يرَ في الديمقراطية الخير دائماً.
إن "النظرية الاجتماعية" عند أرسطو برمتها تقوم على اللامساواة الطبيعية بين البشر، فهو قسم الناس إلى ذوات، هم بطبيعتهم أحرار مستقلون، وأدوات، هم، بحكم طبيعتهم، مسخرون لخدمة الذوات. والمساواة الحقيقية تكمن في مراعاة هذا التفاوت، بحيث يعطى غير المتساويين حقوقاً غير متساوية، ويعطى المتساوون حقوقاً متساوية. كما اعتبر العبودية أمراً اقتضته الطبيعة، فيذهب إلى أن الجنس الإغريقي ينبغي أن تكون له السيادة على العالم، سيادة الحر على العبد، فإذا كانت الدولة الكاملة هي المدينة الإغريقية وأفرادها هم الشعب، فإن ما سواها مجرد مزارع للغذاء والعبيد، أو أعداء خرجوا على نظام الطبيعة، فحاولوا تحرير أنفسهم. فعلى غير الإغريقي أن يطيع، سواء أكان من سكان الجليد أو سكان المناطق الحارة، لأن هؤلاء عارون عن الفضيلة التي إن وجدت فيهم ببعض صفاتها، فبتأثير من أسيادهم الإغريق ليس إلا، وإن أعلن العبيد العصيان فالحرب واجبة. هكذا يعطي أرسطو حق ممارسة السياسة وتداول السلطة للمدينة اليونانية، من دون سائر البشر، ويحصر المواطنة في طبقة من المجتمع دون أخرى.
صحيح أن أرسطو تحدث عن وظائف للدولة، تتمثل في المداولة والعدالة والأمر، لكن هذا التمايز الوظيفي لا يمكن عده فصلاً بين السلطات (التنفيذية والقضائية والتشريعية)، إذ كان ينبغي الانتظار حتى العام 1748 لينشر مونتسكيو كتابه "روح القوانين"، ويتحول معه هذا المبدأ من مجرد تقسيم وظيفي إلى فصل فعلي بين السلطات والهيئات التي تتولى تلك الوظائف، كآلية دستورية لضمان منع الاستبداد وضمان الحريات.
في الوقت الذي يلح فيه أرسطو على ربط السياسي بالأخلاقي، يشدد مونتسكيو على أن علم السياسة لا يمكنه الاستناد إلا على مبادئه الخاصة، وعلى الاستقلال الذاتي الجذري للسياسي بما هو عليه، فجميع الرذائل السياسية ليست رذائل أخلاقية، وكل الرذائل الأخلاقية ليست رذائل سياسية. فلكل نظام قوانينه، فيمكننا الحديث إنسانياً عن نظام الأشياء الإنساني، وسياسياً عن النظام السياسي.
بالإضافة إلى تبريره الأيديولوجيا العنصرية للمجتمع اليوناني، لم تخل فلسفة أرسطو السياسية من الاضطراب، لأنه على الرغم من كل شيء، بقي مسكوناً بفكرته عن الطبيعة والكلية والماهية، وهيمن عليه البحث عمّا ينبغي أن يكون. في المقابل، يرفض مونتسكيو الانطلاق من الماهيات، ويرفض أن تكون معرفة ما ينبغي أن يكون سبيلاً للحكم الجيد على ما هو موجود، كما يذهب روسوّ، بل يريد استخلاص القانون من تعدد الوقائع وتنوّعها. لذا، لم يأبه بمعالجة مبادئ الحق السياسي، بل اكتفى بمعالجة الحق الوضعي للحكومات القائمة، إذ رأى أن نظريات العقد الاجتماعي ما هي إلا أيديولوجيا البرجوازية الصاعدة ضد الإقطاع، التي حاول أصحابها إطلاق صفة العلم على قيم ملتزمة بمعارك زمانهم التي كانوا قد اختاروا أن يخوضوها. الحديث عن السياسة كعلم يبدأ عند تخليصها من التصورات الأخلاقية والميتافيزيقية والأحكام القيمية (ما ينبغي أن يكون). وبذلك، يكون مونتسكيو المؤسس لعلم السياسة، أما أرسطو فيكتسب أهميته من كونه مؤسساً لتاريخ علم السياسة، وليس مؤسساً لعلم السياسة، وهو مضمون العبارة التي يختم بها أحمد فرحات مقاله، ليستدرك ما فاته، ولكن متأخراً.
النيات الحسنة التي أدت إلى تلك الانتقائية في قراءة أرسطو، فغيّبت وجهاً آخر للسياسة الأرسطية في سبيل خوض معركة ضد ثقافة الاستبداد، لصالح قيم الحرية والديمقراطية، ربما يمكن تبريرها أيديولوجياً، إلا أنها تفتقر إلى عديد من مبرراتها المعرفية والمنهجية.