بعد الفيلم الرومانسي "نحبك هادي" (2016)، يُنجز التونسي محمود بن عطية فيلمًا دراميًا سوداويًا بعنوان "ولدي" (2018)، يبدأ بـ"جينريك" يستعرض أسماء الصناديق التي ساهمت في تمويله، ما يؤشّر إلى قوة السيناريو مكتوبًا على الورق. على الشاشة الكبيرة، الأمر مختلف. هناك، تظهر لقطات لا تنتج معنى. لقطات فقيرة أسلوبيًا ودلاليًا. المكان ضبابي، والشخصيات باهتة لا كثافة فيها. هناك لقاء ميكانيكي غير مؤسَّس له، ثم لقطات طويلة توهم بالواقعية. لقطات "ممطوطة" لا يحدث فيها شيء.
40 دقيقة غارقة في روتين حياة يومية لأبٍ يرافق ابنه ويراقبه. يُحقِّق الأب (محمد ظريف) في سلوك شخص يفترض به أنه يعرفه تمامًا. الكاميرا محمولة، تتبع قفا الأب في بحثه المضني. تبسيطية شديدة، حتى أن التجوّل في سورية، التي زعزعتها الحرب الأهلية، يصير مجرد نزهة. مشكوكٌ أن يصمد فيلم كهذا أسبوعًا في القاعات السينمائية. مع توالي الزمن، يتّضح أن المخرج يسرد الرتابة بغرض التأسيس لكوارث تليها. يرتفع الإيقاع حين يتبيّن أنْ لا حدود لما يمكن أن يفعله أب من أجل ابنه. رجل يتبع قلبه في متاهة خطرة. النصف الثاني من الفيلم أفضل على صعيد الإيقاع: يذهب الأب في رحلة، في فيلم متخيل، يشعر بها المشاهد كأنها مقطع من وثائقيّ. عند وقوع الكارثة، لا يلجأ الأب إلى العويل في وسائل الإعلام. في كلّ مرة يتلقّى الأب أخبارًا سيئة عن ابنه في أماكن تفيض نعمة، وهذا يبرز مدى عمى الابن الذي هجر نعَمًا كهذه.
في "ولدي"، هناك ممثل يؤدّي دوره باقتصاد. يتصرّف كأنّ الكاميرا غير موجودة. الكاميرا على قفاه باستمرار، وهو ينظر إلى الجهة الأخرى. هو ماض في طريقه بحثًا عن ابنه. لا يظهر أنه مشغولٌ بنا، نحن الذين نراقبه. إنه بعيدٌ عنا. ممثلٌ مستغرق في دوره طيلة أيام التصوير، لذا لا يظهر مرة باردًا ومرة أخرى دافئًا في أدائه. ممثل صامت، يقدِّم كائنًا شبحيًا لا نعرف عنه الكثير، لكنه مشحون بدلالة تُدرَك بصفة حدسية، ومن الحركة الأولى، لأن عقل المُشاهد "يُدرك في شبح الشيء الشيءَ في جوهره"، أي "الإدراك البسيط" ("السيميائية وفلسفة اللغة"، أمبرتو إيكو، ترجمة أحمد الصمعي، المنظّمة العربية للترجمة، ص. 453). أفلامٌ إيطالية كثيرة اعتمدت هذه الحيلة البصرية.
حصول الممثل محمد ظريف على جوائز عديدة على أدائه هذه الشخصية الشبحية المؤثّرة ليس صدفة. ممثل يؤدّي دور أبٍ يتصرّف بصفاء طفولي، يُزيد مصداقيته. بالنسبة إليه، ابنه بريء. ما جرى مجرّد خطأ صغير يمكن لنظرة متبادلة تصحيحه. لا يجري الكثير عمليًا، بل على وجه الممثل وثراء مشاعره، كما تفصح عنها قسمات وجهه التي تعوِّض فقر السياق.
حكاية أبسط مما يجب، لكن السياق المعلوم للمُشاهد يقوّيها. كشفت التجارب أن التشدّد الديني غير قابل للمراقبة، لأن أعراضه ليست فيزيولوجية. إنه يتوارى عميقًا في اللاوعي، لذا نرى شابًا غامضًا يبحث عن أفق جديد، وينتهي في حفرة. سياق يؤكد أن مستوى "الدعشنة" يرتفع في الحياة اليومية بين كازابلانكا وجاكارتا.
بدراسة المنظور في الفيلم، يظهر أن كاميرا محمود بن عطية تطبِّق تعريف جان كوكتو للسينما: "حدث يُشاهَد من ثقب مفتاح". نتابع رحلة الأب في بحثه، وهو يبدو ضائعًا. يعبُر الـ"كادر" من اليمين إلى اليسار، وبالعكس أيضًا. يتّجه إلى عمق الـ"كادر". لا يأتي إلى الكاميرا التي تمثل عيوننا نحن المشاهدين. تتابع عينُ المُشاهد الأبَ ولا ترى زحامًا حوله، ولا الواقع كاملاً. هناك حبكات صغيرة مقطّرة فقط.
يبدو أن شباب تونس في أزمة. في "بنزين" (2017) للتونسية سارة العبيدي، يبحث الأب عن ابن "حرق" إلى أوروبا (هاجر إليها). في "فتوى" (2018) لمواطنها محمود بن محمود، يبحث الأب في مصير الابن. في "ولدي"، يبحث الأب عن ابن ذهب إلى حيث لم يتوقع قط. تشتدّ الصدمة مع صراخ الولد في وجه أبيه: "لا أريد أن أكون مثلك". تعبير مزلزل يكشف للأب عبثية تكرار المقولة: "أُدْرسْ إعملْ تزوّجْ وأنجبْ".
هكذا ينقشع الوهم. يكتشف الأب أنه لا يعرف ابنه أبدًا، وما كان بحثًا عن "ولدي" صار بحثًا عن الذات. صار الأب يسائل معنى حياته. يكتشف أن كلّ ما بناه في حياته لم يكن له معنى. يظهر في لقطة مُوالية للعزاء، وهو يستخدم "آلة الحلاقة". لم ينتظر 40 يومًا. بعدها، بدأ يتراجع منسوب السوداوية في الفيلم تدريجيًا.