كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة بعد تلك اللحظة جحيم. نار أخمدتها بيديها في منفاها الكندي. انتحرت سارة حجازي قبل يومَين تاركة رسالة إلى إخوتها وأصدقائها، وإلى العالم قائلة: "كنت قاسياً إلى حد عظيم... لكني أسامح".
منذ لحظة إعلان وفاتها، انتشرت تفاصيل كثيرة عن حياتها، ورسائل تشاركتها مع رفاق، وأحلام دفنتها كلها في السجن المصري. هناك حيث تمّ تحريض الحارسات على التحرّش بها وتعذيبها. تفاصيل كثيرة لم تعد مهمّة، بعدما تركتها صاحبتها لمطاوعة مواقع التواصل الاجتماعي للتحريض عليها وشتمها حتى بعد وفاتها.
تستحقّ قصة سارة أن تروى في كل مرة نستعيد فيها مصير جيل عربيّ كامل ظنّ للحظة واحدة قبل 10 سنوات تقريباً أنه يصنع مصيراً مختلفاً عن مصير الجيل الذي سبقه. وبالفعل كان مصيراً آخر، أكثر سواداً وحزناً وضيقاً. مصر تحديداً التي يعتقل فيها الناس عشوائياً لأغنية أو رسالة أو علم مرفوع.
والعلم المرفوع هنا جرم قبيح في عرف نظام بنى خطابه السياسي والاجتماعي منذ 2013 على "الحفاظ على الأخلاق". يعذّب المعتقلين في السجون، ويخرج رئيسه عبد الفتاح السيسي ليتحدّث عن "دور السينما في تقويم الأخلاق" (19 يناير/ كانون الثاني 2018). يموت مخرج شاب من المرض والإهمال والوحدة في سجن طره، فتطل علينا النيابة العامة ببيان ينسب سبب الوفاة إلى "التسمّم الكحولي". شاب "بلا أخلاق ولا دين" يشرب المنكر حتى في السجن. وخلف هذا النظام، سوط يحمله المجتمع "المتديّن بطبعه" كما تقول النكتة. يفرغ آلاف المصريين والعرب كبتهم وغضبهم وقمعهم السياسي والاقتصادي والجنسي في وجه سارة، ووجه كل المهمشين: النساء، والمثليون/ات، واللاجئون/ات، والمعارضون/ات، والملحدون/ات. يمارسون سلطة وهمية يعوّضون فيها عجزهم التام عن التحكّم بمصائرهم وحيواتهم تحت حكم أنظمة مجرمة.
يتناقلون في ما بينهم مفتاح الجنّة، ويعطون لأنفسهم سلطة وهمية وتفوّقاً أخلاقياً غير موجود إلا في روايتهم. تلك الرواية التي يكتبها النظام ومؤسساته الدينية، ويجعل منها مسلّمات لا تقبل الشكّ.
وفي قصة سارة حجازي كل المقوّمات لتجعل منها هدفاً سهلاً لهؤلاء، فهي امرأة، وهي مثليّة لا تخفي ميولها الجنسية، وفي مواقفها السياسية والاجتماعية الكثير مما قد يُربك جنود النظام المرابضين على كل مواقع التواصل الاجتماعي. اختار النظام أن "يعلّمها الأدب". اعتقلها وعذّبها، وحوّل حياتها كابوساً يومياً. وجاء اعتقالها ليتوّج 3 سنوات من الردّة العنيفة على الحريات الشخصية في مصر، خصوصاً الحملة الممنهجة على المثليين في البلاد عام 2014.
في تلك السنة الأولى من حكم عبد الفتاح السيسي كان ضرورياً إثبات أن النظام ليس أقل "تديّناً" من الإخوان المسلمين. ومَن أفضل من المثليين لتقديمهم قرابين على مذبح الأخلاق؟ ثمّ توالت الاعتقالات وتعدّدت الأسباب: خدش الحياء العام (قضية أحمد ناجي 2016)، التحريض على الفسق والفجور (قضية فتاة التيك توك؛ مودة الأدهم، 2020)... وغيرها.
لمرة واحدة اجتمع مناصرو النظام مع قسم كبير من معارضيه من الإسلاميين، شتموا سارة قبل موتها وبعده، قبل دخولها السجن وبعده. أعطوا للمجتمع والأمن غطاءً لاعتقالها وتعذيبها: كيف يرفع علم للمثليين فوق أرض مصر الطاهرة؟
في كل تفصيلة من قصة سارة حكاية مواطن عربي، حكاية سيّدة رفضت الخضوع لقواعد المجتمع، حكاية مثليّ أو مثلية قرّر/ت الخروج إلى الضوء، حكاية لاجئ في بلد بعيد قتلته الوحدة والغربة والعذاب المتراكم لسنوات، حكاية معتقل عربي خرج من السجن وتحت ابتسامته صدمات يعجز عن تخطيها.
يقول عبد الرحمن منيف في كتابه "شرق المتوسط": "آه لو تنظرين لحظة واحدة في قعر سرداب من آلاف السراديب المنشورة على شاطئ المتوسط الشرقي وحتى الصحراء البعيدة، ماذا ترين: بقايا بشر، ولهاثاً، وانتظاراً يائساً. وماذا أيضاً؟ وجوه الجلادين الممتلئة عافية وثقة بالنفس والضحكات. لا تستغربي شيئاً يا سيدتي، والذي يثير استغرابك الآن، أقل الأشياء إثارة للاستغراب هناك!".
تركت سارة كل تلك السراديب، وحدها وجوه الجلادين لا تزال تضحك، وتحتها تصفيق لا يتوقّف، واحتفاء بانتصار جديد للأخلاق.