"كُنْ ذاتك. لا أصغر فرهادي، ولا عباس كيارستمي". نصيحة للسينمائيين الجدد في إيران، يُكرِّرها أساتذة السينما، ونقّادٌ وسينمائيون. في إحدى ندوات الدورة الـ37 (18 - 26 إبريل/ نيسان 2019) لـ"مهرجان فجر الدولي للفيلم" في طهران، أشار شهاب اسفندياري (أستاذ في السينما، ورئيس "جامعة السمعي ـ البصري"، وأحد مسؤولي المهرجان نفسه) إلى أنّ المهرجانات لم تعد تحتاج إلى مخرجين مثلهما: "إنْ أردتَ أن يلاحظك أحدٌ، فاصنع شيئًا مختلفًا. رَفَع فرهادي، وقبله كيارستمي، قيمة السينما الإيرانية، من دون تقليد".
ما يُفاجئ كامنٌ في عدم العثور على هذا وذاك، في نحو 20 فيلمًا إيرانيًا (أُنتج مُعظمها عام 2019) معروضًا في تلك الدورة. المخرج صفي يزدانيان يشعر أنّ ظلّ كيارستمي "زال، لسوء الحظ"، وأنّ "سبب هذا ليس لأن تأثيره ذَهَب، بل لأنه هو لم يعد هنا". شاهد يزدانيان أفلامًا إيرانية عديدة، أتاحت له القول إنّ "تأثير فرهادي يزول هو الآخر". يزدانيان أخرج فيلمين تبدأ خصوصيتهما من عنوانهما: "أي ساعة هي الآن في دنياك؟" (2014) و"فجأة، شجرة" (2019)، المعروض في تلك الدورة نفسها أيضًا. فيهما، كان حرًّا في سرد القصّة، مبتعدًا عن قوانين السينما الإيرانية، إلى درجة يشعر معها المتفرّج أنه لا يُشاهِد فيلمًا إيرانيًا.
هناك بحث جديد عن الشكل، في قصّة تعتمد على دمج الخاص بالعام والأزمنة، وسرد له أسلوب خاص: يُعتقل شابٌ (بيمان معادي) أيام الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، أثناء محاولته الهجرة من البلد. بعد خروجه من السجن، يعود إلى ماضيه وحبّه القديم. تحقيقات الشرطة، وحواره مع طبيبة نفسية، يُتيجان له استعادة حياته منذ الطفولة. أجواء الفيلم والأمكنة والشخصيات كلّها تنبئ بغرابةٍ وجِدّة في طرح مسألة الخوف من العودة إلى أمكنة الماضي وزمنه، كما إلى الحنين.
أصغر فرهادي صوَّر "عن إيلي" (2009) في شمال طهران، على شاطئ بحر الخزر، وكذلك فعل يزدانيان في فيلمه الأول. لكن الإحساس بالمكان يختلف تمامًا من فيلم إلى آخر. فيلم يزدانيان يظهر أكثر حميمية والتصاقًا بالشخصيات وتأثيرًا في سلوكها.
مخرجون عديدون متأثّرون بأسلوب أصغر فرهادي في أفلامهم الأولى (أسلوب القصّ والاهتمام بالطبقات الوسطى في المجتمع)، حقّقوا أفلامهم الثانية بشكل مغاير، في مضامينها على الأقلّ. بعد "ملبورن" (2014)، أنجز نيما جاويدي فيلمًا جديدًا، يبتعد عن الأول بمضمونه وأسلوبه وأجوائه، من دون بلوغ متانته. في "السجّان" (2019)، يعود إلى منتصف ستينيات القرن الـ20، متابعًا تحضير مدير سجن نقل السجناء إلى مكان جديد، قبل وصول خبر فرار أحد المحكوم عليهم بالإعدام. كيف سيتصرّف؟ ما هي الاعتبارات التي ستدخل في حساباته، هو الضابط المخلص لعمله وواجبه ورؤسائه؟ أحداث الفيلم تدور في زمن الشاه، لذا استُبدل الحجاب بقبعة على رأس بطلته الوحيدة.
أسلوب فرهادي لم يظهر في أفلام أخرى، ليس بوضوح تام على الأقلّ، كما سيحصل بعد نيله جوائز في "كانّ" وهوليوود (أوسكار). أما كيارستمي، فيبدو بعيدًا. يقول رضا مير كريمي، مدير "مهرجان فجر"، إنّ "الجيل الحالي يرغب في أن يكون له أسلوب خاص. يريد دربًا جديدًا مغايرًا لأسلوب كيارستمي" ("الجزيرة الوثائقية"، 8 مايو/ أيار 2019).
هذا ليس طارئًا وحيدًا على السينما الإيرانية الجديدة، التي تبدو اليوم أكثر واقعية ومباشرة، وأقلّ شاعرية وايحاءً، مع أنها لا تزال ترتكز على الإنسانية والشاعرية، ولا تزال غنية ومتنوّعة في مضمونها الاجتماعي، وعميقة في فهمها الطبيعة البشرية. شكلاً، تختار مواقع تصوير متشابهة، وتستخدم النور الطبيعي وعناصر بصرية غير مبالغ بها.
الواقع منطلقٌ دائم للسينما الإيرانية. لكنه اليوم، في معظم الأفلام، أكثر فجاجة في أجوائه وشخصياته ومفرداته. فمن أجواء القرية وسكينتها في أفلام كيارستمي، إلى أجواء المدينة مع فرهادي، والمواجهة بين الطبقتين الوسطى والدنيا، كما في "احتفالات الأربعاء" (2006) و"انفصال"(2011)، باتت السينما الإيرانية الراهنة تغتني بفضل مواضيع اجتماعية وإنسانية أكثر تنوّعًا، وتُشرِّع الباب أمام قادمين جدد، كمهاجرين أفغان في إيران، وإيرانيين في الخارج، ورياضيين ورياضيات، وآخرين ليسوا جددًا تمامًا، إذْ يظهرون بتنوّع أكثر، كالطبقات المهمَّشة.
كذلك، تبرز الكوميديا الساخرة مُجدّدًا، تلك التي تعتمد الكلمة أكثر من الحركة، والبعيدة عن التهريج. هناك سمات عامة في الشكل تتعلّق باستخدامٍ، مفرط أحيانًا، للّقطات المقربة، وباقتصار أفلامٍ عديدة على أماكن مغلقة، مع ظهور تصوير خارجي في فرنسا وإنكلترا مثلاً.
لكن التغييرات لا تمسّ العنصر الأساسي في السينما الإيرانية، على أهميّته، أي فنّ القصّ، الذي به يبدأ كلّ شيء. فمهما كان الحدث صغيرًا، يمكنه خلق قوّة سرد عالية، والذهاب إلى حدثٍ آخر. هذا يتجسّد في "الفحم" مثلاً (2019، إنتاج مشترك مع فرنسا)، وهو فيلم أول لإسماعيل منصف، المتمكّن والمُبهر، بدءًا من السيناريو والإخراج، وصولاً إلى الممثلين. طبقات فقيرة ومُهمّشة، وبعيدة عن المدن، تبذل جهودًا جبّارة للعيش ضمن الحدّ الأدنى. أسرة تستخرج الفحم في بلدة ريفية شمال غرب إيران، وتعاني أزمة مالية. ضغط الديون، ومحاولات تدبير الاحتياجات اليومية والطارئة، كزواج الابنة، تؤدّي كلّها إلى انهيارها. إخراج يتواءم بمهارة مع سيناريو بارع، يكشف - تدريجيًا وبتقشّف كافٍ - النوايا والأحداث: سجن الابن، إفلاس، وتدهور العلاقات العائلية. الفيلم مُصوَّر في أذربيجان الإيرانية، ويعتمد لغتها التي هي من تنويعات اللغة التركية.
ما يُفاجئ كامنٌ في عدم العثور على هذا وذاك، في نحو 20 فيلمًا إيرانيًا (أُنتج مُعظمها عام 2019) معروضًا في تلك الدورة. المخرج صفي يزدانيان يشعر أنّ ظلّ كيارستمي "زال، لسوء الحظ"، وأنّ "سبب هذا ليس لأن تأثيره ذَهَب، بل لأنه هو لم يعد هنا". شاهد يزدانيان أفلامًا إيرانية عديدة، أتاحت له القول إنّ "تأثير فرهادي يزول هو الآخر". يزدانيان أخرج فيلمين تبدأ خصوصيتهما من عنوانهما: "أي ساعة هي الآن في دنياك؟" (2014) و"فجأة، شجرة" (2019)، المعروض في تلك الدورة نفسها أيضًا. فيهما، كان حرًّا في سرد القصّة، مبتعدًا عن قوانين السينما الإيرانية، إلى درجة يشعر معها المتفرّج أنه لا يُشاهِد فيلمًا إيرانيًا.
هناك بحث جديد عن الشكل، في قصّة تعتمد على دمج الخاص بالعام والأزمنة، وسرد له أسلوب خاص: يُعتقل شابٌ (بيمان معادي) أيام الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، أثناء محاولته الهجرة من البلد. بعد خروجه من السجن، يعود إلى ماضيه وحبّه القديم. تحقيقات الشرطة، وحواره مع طبيبة نفسية، يُتيجان له استعادة حياته منذ الطفولة. أجواء الفيلم والأمكنة والشخصيات كلّها تنبئ بغرابةٍ وجِدّة في طرح مسألة الخوف من العودة إلى أمكنة الماضي وزمنه، كما إلى الحنين.
أصغر فرهادي صوَّر "عن إيلي" (2009) في شمال طهران، على شاطئ بحر الخزر، وكذلك فعل يزدانيان في فيلمه الأول. لكن الإحساس بالمكان يختلف تمامًا من فيلم إلى آخر. فيلم يزدانيان يظهر أكثر حميمية والتصاقًا بالشخصيات وتأثيرًا في سلوكها.
مخرجون عديدون متأثّرون بأسلوب أصغر فرهادي في أفلامهم الأولى (أسلوب القصّ والاهتمام بالطبقات الوسطى في المجتمع)، حقّقوا أفلامهم الثانية بشكل مغاير، في مضامينها على الأقلّ. بعد "ملبورن" (2014)، أنجز نيما جاويدي فيلمًا جديدًا، يبتعد عن الأول بمضمونه وأسلوبه وأجوائه، من دون بلوغ متانته. في "السجّان" (2019)، يعود إلى منتصف ستينيات القرن الـ20، متابعًا تحضير مدير سجن نقل السجناء إلى مكان جديد، قبل وصول خبر فرار أحد المحكوم عليهم بالإعدام. كيف سيتصرّف؟ ما هي الاعتبارات التي ستدخل في حساباته، هو الضابط المخلص لعمله وواجبه ورؤسائه؟ أحداث الفيلم تدور في زمن الشاه، لذا استُبدل الحجاب بقبعة على رأس بطلته الوحيدة.
أسلوب فرهادي لم يظهر في أفلام أخرى، ليس بوضوح تام على الأقلّ، كما سيحصل بعد نيله جوائز في "كانّ" وهوليوود (أوسكار). أما كيارستمي، فيبدو بعيدًا. يقول رضا مير كريمي، مدير "مهرجان فجر"، إنّ "الجيل الحالي يرغب في أن يكون له أسلوب خاص. يريد دربًا جديدًا مغايرًا لأسلوب كيارستمي" ("الجزيرة الوثائقية"، 8 مايو/ أيار 2019).
هذا ليس طارئًا وحيدًا على السينما الإيرانية الجديدة، التي تبدو اليوم أكثر واقعية ومباشرة، وأقلّ شاعرية وايحاءً، مع أنها لا تزال ترتكز على الإنسانية والشاعرية، ولا تزال غنية ومتنوّعة في مضمونها الاجتماعي، وعميقة في فهمها الطبيعة البشرية. شكلاً، تختار مواقع تصوير متشابهة، وتستخدم النور الطبيعي وعناصر بصرية غير مبالغ بها.
الواقع منطلقٌ دائم للسينما الإيرانية. لكنه اليوم، في معظم الأفلام، أكثر فجاجة في أجوائه وشخصياته ومفرداته. فمن أجواء القرية وسكينتها في أفلام كيارستمي، إلى أجواء المدينة مع فرهادي، والمواجهة بين الطبقتين الوسطى والدنيا، كما في "احتفالات الأربعاء" (2006) و"انفصال"(2011)، باتت السينما الإيرانية الراهنة تغتني بفضل مواضيع اجتماعية وإنسانية أكثر تنوّعًا، وتُشرِّع الباب أمام قادمين جدد، كمهاجرين أفغان في إيران، وإيرانيين في الخارج، ورياضيين ورياضيات، وآخرين ليسوا جددًا تمامًا، إذْ يظهرون بتنوّع أكثر، كالطبقات المهمَّشة.
كذلك، تبرز الكوميديا الساخرة مُجدّدًا، تلك التي تعتمد الكلمة أكثر من الحركة، والبعيدة عن التهريج. هناك سمات عامة في الشكل تتعلّق باستخدامٍ، مفرط أحيانًا، للّقطات المقربة، وباقتصار أفلامٍ عديدة على أماكن مغلقة، مع ظهور تصوير خارجي في فرنسا وإنكلترا مثلاً.
لكن التغييرات لا تمسّ العنصر الأساسي في السينما الإيرانية، على أهميّته، أي فنّ القصّ، الذي به يبدأ كلّ شيء. فمهما كان الحدث صغيرًا، يمكنه خلق قوّة سرد عالية، والذهاب إلى حدثٍ آخر. هذا يتجسّد في "الفحم" مثلاً (2019، إنتاج مشترك مع فرنسا)، وهو فيلم أول لإسماعيل منصف، المتمكّن والمُبهر، بدءًا من السيناريو والإخراج، وصولاً إلى الممثلين. طبقات فقيرة ومُهمّشة، وبعيدة عن المدن، تبذل جهودًا جبّارة للعيش ضمن الحدّ الأدنى. أسرة تستخرج الفحم في بلدة ريفية شمال غرب إيران، وتعاني أزمة مالية. ضغط الديون، ومحاولات تدبير الاحتياجات اليومية والطارئة، كزواج الابنة، تؤدّي كلّها إلى انهيارها. إخراج يتواءم بمهارة مع سيناريو بارع، يكشف - تدريجيًا وبتقشّف كافٍ - النوايا والأحداث: سجن الابن، إفلاس، وتدهور العلاقات العائلية. الفيلم مُصوَّر في أذربيجان الإيرانية، ويعتمد لغتها التي هي من تنويعات اللغة التركية.