ربع قرن من الزمان مرّ على رحيل الموسيقار المصري بليغ حمدي، وما تزال سيرته وأعماله حديث الناس. إنه الإشكالي، وبقي طوال حياته (1929 - 1993) في المنطقة الإشكالية ذاتها، رغما عنه.
غادر مصر وعاش في الغُربة محروماً من العودة بسبب اتهامه بمقتل الفنانة المغربية سميرة مليان عام 1984 التي لقيت مصرعها نتيجة سقوطها من بلكونة شقته في القاهرة. كان بليغ يعتقد تماماً أنه بريء ولا بد لهذه القصة أن تنتهي سريعاً ويعود. لكن الغربة طالت كثيراً بعد أن صدر الحُكم عليه غيابياً بالسجن سنة.
كتب الروائي المصري الراحل مكاوي سعيد (1956 - 2017) في كتابه "القاهرة وما فيها" عن هذه الواقعة تحت عنوان "بليغ حمدي والنهايات الحزينة"، بأن المأساة الكبرى في حياة بليغ كانت في مسألة هروبه من مصر "عقب سقوط سميرة مليان من شرفة منزله ووفاتها، والغموض والشبهات التي أحاطت بهذا الحادث".
خلال ذلك الغياب، لم يقل أحدهم إن بيت بليغ كان مفتوحاً طوال اليوم لكل زائر، مفتوحاً حتى لأناس لا يدري عنهم شيئاً ويأتون رفقة ناس يعرفون عنوان البيت، وكان يتركهم في أوقات تعبه لينام. كان كريماً بإفراط، وهو الكرم نفسه الذي سيُبعده عن مصر ويعيش حياة القهر والغربة والمرض.
وبالعودة إلى توثيق مكاوي سعيد، فقد قال إن بليغ تورط في الحادثة بسبب "طيبته الشديدة وحسّه المرهف وإحساسه بالناس وبالأصدقاء غالباً، وحياته البوهيمية، على غرار فنّان الشعب سيد درويش، فقد كان فاتحاً منزله أمام الأصدقاء والزملاء وأصدقاء الأصدقاء والمعجبين بكرم حاتمي". لكن صادف حين أتت سميرة مليان إلى البيت كان تعب بليغ قد بلغ مداه فاستأذن الجميع وراح إلى نومه. ولم يدم ذلك النوم طويلاً حيث فزع منه بكارثة حصلت من شرفة بيته.
كان لتحقيق نزيه أن يُنهي القضية على نحو سريع. بليغ لم يكن موجوداً وقت حادثة سقوط سميرة مليان، بشهادة من كانوا حضوراً. وهناك من قال إنها كانت حادثة قتل ولم تكن انتحاراً، وتم رميها من شرفة بليغ بعد خنقها، وهناك أيضاً من قال إنها قذفت بنفسها بعد جرعة مخدرات كبيرة. لكن لا أحد قال إن بليغ كان نائماً ولا يعلم ما يحصل في شقته.
كان بليغ وحيداً بلا سلطة تحميه. لعلّه هو الفنّان المصري الوحيد الذي لم يمدح شخصاً أو زعيماً. لو عدنا بذاكرتنا إلى أرشيفه الكبير لن نجد عملاً واحداً يذكر فيه اسم زعيم. لقد كان هاجسه الناس العاديين وبلاده. وحين نتذكر أغانيه الوطنية، فهي "عدّا النهار" من شعر عبد الرحمن الأبنودي وغناء حليم، و"على الربابة بغني" لـ وردة، و"يا حبيبتي يا مصر" بصوت شادية، وغيرها الكثير. لكن عبر المرور على كل ما ألّفه من ألحان، لم يكن هناك اسم لزعيم.
بعكس فنانين آخرين تغنّوا بالقادة المصريين، مثل أم كلثوم، وعبد الحليم، الذي كان فنان الثورة المدلل. لكن بليغ استمر برفضه الغناء لغير بلده والناس العاديين. وفوق ذلك حصل أن مُنع مُلحن "ظلمنا الحب" من دخول مبنى الإذاعة والتلفزيون.
كان هذا في أيّام حرب أكتوبر 1973. كانت الدنيا مقلوبة والمبنى بمثابة مقر عسكري. كانت زوجته وردة معه. وحين تأكد رفض دخوله ذهب وفتح محضراً في قسم الشرطة القريب من المبنى. وتطورت المسألة إلى حين سُمح لهما بالدخول وكانت أغنية "على الربابة بغني"، وحصل ذلك بعد أن تعهد أن يكون عمله مجانياً بلا مقابل مادي.
هكذا يمكن فهم إشكالية بليغ حمدي، تلك الوحدة ورحلة الاغتراب التي خاضها. أن تكون بلا سلطة وبلا حزب يحميك فأنت مقيم في دائرة المراقبة والمحاسبة والطرد بعد ذلك. لكن اللافت أن صاحب "الطير المسافر" قد ألّف الكثير من ألحانه من أجل مصر وهو في المنفى. أكثر من صوت عربي غنّى له، مثل ميادة الحناوي وسميرة سعيد، وكان يكتب ويلحّن باسم مستعار هو "ابن النيل". حين ظهرت البراءة وعاد إلى مصر، كان المرض قد استبدّ به. النفي يقتل، ولا علاج له.